الرسالة الخامسة (المبادئ المهمة لمؤتمر الأمة)
- بواسطة مؤتمر الأمة --
- الخميس 15 جمادى الثانية 1434 00:00 --
- 0 تعليقات
الرسالة الخامسة
(المبادئ
المهمة لمؤتمر الأمة)
أصول العقيدةالسياسية:
الأصل الأول: الإسلام دين ودولة، الأمة مصدر السلطة، والشريعة مصدر التشريع.
الأصل الثاني: الحقوق والحريات الفردية والجماعية، حقوق شرعية مصونة لجميع الأمة؛ بما في ذلك حق إبداء الرأي ونقد السلطة.
الأصل الثالث: الخلافة والحكومة الراشدة والشورى والتعددية، والأخذ برأي الأكثرية، من أصول الحكم وحقوق الأمة.
الأصل الرابع: وحدة الأمة واتحادها ضرورة شرعية، وحقٌ مشروع لجميع شعوبها.
الأصل الخامس: العدل والمساواة بين الناس، ورفض جميع صُور الظلم والتمييز العنصري والطائفي والطبقي؛ من أوجب الواجبات الشرعية، وأهم الحقوق الإنسانية.
الأصل السادس: احترام كرامة الإنسان، وحريته وحقوقه الإنسانية الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والمهنية والعلمية؛ واجبٌ شرعي.
الأصل السابع: حق الأمة في المحافظة على ثرواتها، وحمايتها وتنميتها اقتصاديًّا، وتوزيعها توزيعًا اجتماعيًّا عادلًا؛ كلُّ ذلك حقوق مشروعة، لا يسوغ مصادرتها أو الافتئات فيه عليها، ولا التصرف فيه دون إذنها، وقبل الرجوع إليها.
الأصل الثامن: الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية، وقيمها وثقافتها ولغتها؛ من الواجبات الشرعية، وأصول الحكم.
الأصل التاسع: الجهاد في سبيل الله دفاعًا عن الأمة ودينها وإقامة أحكامه من واجبات السلطة.
الأصل العاشر: الوفاء بالعهود والتعاون مع شعوب العالم واجب مشروط؛ بما يحقق العدل والخير والأمن والاستقرار.
شرح أصول العقيدة السياسية:
الأصل الأول: (الإسلام دين ودولة) (الأمة مصدر السلطة) (والشريعة مصدر التشريع).
وهذا أول أصول العقيدة؛ ويتضمن مسائل عدة:
أولا: فيه بيان لطبيعة النظام السياسي الإسلامي الذي يؤمن به (مؤتمر الأمة)، وهو كون الإسلام ينظم في أحكامه كل شئون الحياة؛ بما فيها المجال السياسي: كالدولة -الحكومة الراشدة على مستوى الأقطار، والخلافة الراشدة على مستوى الأمة- وضروراتها وواجباتها، وكيفية قيام السلطة فيها، وطريقة اختيارها ومراقبتها وعزلها، وهذه القضية من بدهيات الإسلام، ومن المعلوم من الدين بالضرورة القطعية؛ ولهذا كانت الهجرة النبوية إلى المدينة، وإقامة الدولة فيها هي بداية التاريخ الإسلامي؛ إذ قبل ذلك كان النبي ﷺ في مكة يعيش مع أصحابه في مجتمع جاهلي، لا دولة فيه للإسلام، ولا شوكة ولا سلطة تُقيم أحكامه وشرائعه وعدله ورحمته، فلم يبدأ التاريخ الإسلامي من البَعثة، بل مِنَ الهجرة وقيام الدولة التي بشّرهم القرآن بقيامها؛ كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾([1]).
فالدين: وهو (الإسلام)، والتمكين: وهو (الاستخلاف وقيام الدولة)؛ متلازمان لا ينفكان ولا ينفصلان، بل لا يقوم ولا يظهر دين الإسلام إلا بالدولة والتمكين، كما جرى في المدينة النبوية، وهذا مَحلُّ إجماع جميع المسلمين، كما قال ابن حزم:
"علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات، والدماء، والنكاح، والطلاق، ومنع الظلم، وإنصاف المظلوم، وأخذ القصاص…، ممتنع غير ممكن -أي دون دولة وسلطة- وهذا مشاهدٌ في البلاد التي لا رئيس لها، فإنه لا يُقام هناك حكمُ حق، ولا حدٌّ، حتى ذَهَبَ الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو أكثر"([2]).
وقال القرطبي عن الخلافة: "لا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة. . . ، فدلَّ على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين"([3]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين. بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس؛ لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر من أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة..."([4]).
وقال الإمام الغزالي: "السلطان ضروري في نظام الدين ونظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري للفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصودُ الأنبياء قطعًا، فكان وجوب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه"([5]).
وقال ابن خلدون: "نصب الإمام واجب، وقد عُرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن الصحابة y بادروا إلى بيعة أبي بكر t وتسليم النظر إليه في أمورهم"([6]).
فقيام الدولة ونصب الإمام واختيار السلطة من أوجب الواجبات الشرعية؛ إذ لا قيام للدين إلا بها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي ضرورة عقلية بدهية وركن من أركان الدين؛ كما قال ابن حزم، وضرورة شرعية؛ كما قال الغزالي.
وقد أجمع العلماء على أن الولايات السياسية العامة من أشرف الواجبات الشرعية؛ كما قال العزُّ بن عبدالسلام: "أجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المُقسطِين أعظم أجرًا، وأجل قدرًا من غيرهم؛ لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق، ودرء الباطل…، وعلى الجملة فالعادل من الأئمة والولاة والحُكَّام، أعظم أجرًا من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام"([7]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن التَّقرُّب إليه فيها بطاعته وطاعة رسول الله ﷺ من أفضل القربات"([8]).
فتأكد بما سبق ذكره أن مبدأ (الإسلام دين ودولة) ضرورة شرعية، وبدهية عقلية، فالزكاة والعدل والجهاد، وكل التشريعات الجماعية التي جاء بها الإسلام، لا يمكن أن تقام إلا في ظل دولة، وفي هذا المبدأ تَمَايُز عن كل حزب سياسي أو فكري يدعو إلى فصل الإسلام عن الدولة وشئون الحياة، وهو الذي إنما جاء ليحكم الحياة، ويَنظِم شئونها؛ وفق هدايات القرآن وعدله ورحمته؛ إذ الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، هو أن يقوم الناس بالقسط؛ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾([9])، وكما قال تعالى على لسان نبيه ﷺ وهو في مكة في سورة الشورى: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب؛ ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح، لا لرفع الفساد بالكلية، فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية؛ إذ لابد فيها من فساد"([11]).
ثانيا: كما في هذا المبدأ تأكيد على أن (الأمة مصدر السلطة)، وهو أصل من أصول الخطاب السياسي الإسلامي القرآني والنبوي والراشدي؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾([12])، فالأمة هي التي تختار الإمام والسلطة بالشورى والرضا، فهذه الدولة والخلافة -التي هي ضرورة شرعية وعقلية لقيام الإسلام وظهور الأحكام- دولة مدنية تَحكُمُ فيها الأمةُ نَفسَها ولا يَحكُمُها غيرها، فلا تخضع لسلطان الملوك، كما هو الشأن في دولة قيصر وكسرى، ولا سُلطان رجال الدين، كما هو الشأن في الدولة الدينية الثيوقراطية، فقد أبطل الإسلام ربوبية كل بشر ﴿وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّـهِ﴾([13])، فالمسلمون جميعًا سواء، وأمرهم شورى بينهم، وهم مصدر السلطة، فالخليفة مَنْ اختاروه، والأميرُ مَن أَمَّرُوه، كما قال عمر: "لا إمارة إلا عن شورى المسمين"، وقال: "الإمارة شورى بين المسلمين".
إدراك الصحابة لحق الأمة في الشورى واختيار السلطة:
وقد أدرك الصحابة أهمية الشورى في سياسة شئون الأمة، ولم يختلفوا في أن الأمر شورى، وأن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار السلطة، وأول الأمور وأهمُّها: أمر الإمامة واختيار الخليفة. ولهذا قال عمر، وهو على فراش الموت، لعبد الله بن عباس: "اعقل عني ثلاثًا: الإمارة شورى بين المسلمين. . . "([14]).
وقد بَلغ عمر في آخر حجة، وهو بمنى، أن رجلا قال: "لو مات عمر بايعت فلانًا، فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَلتةً فتمت"، فقال عمر t: "إني -إن شاء الله- لقائم العشية في الناس، فمُحَذِّرُهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم"، ثم لما وصل المدينة، قام في أول جمعة، فخطب خطبته المشهورة في شأن خلافة أبي بكر، ثم قال: "من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يُتَابَعُ هو، ولا الذي بايعه، تغرةً أن يُقتلا"([15]).
وفي رواية: "لا بيعة له ولا لمن بايعه"([16]).
أي: لا بيعة لمن بايع رجلا دون شورى المسلمين ورضاهم؛ لكونها حقًّا من حقوقهم يَحرُم اغتصابه.
وهذه الخطبة من أشهر خُطَبِ عمر وأصحِّها، وقد كانت بمحضر من الصحابةy، فكان إجماعًا منهم على أن حق اختيار الإمام هو للأمة، وأنه يَحرُم غصبها هذا الحق، وأن من بايع رجلا دون شورى المسلمين فقد عَرَّضَ نفسه للقتل([17]).
وقال عمر للستة: "من تَأَمَّرَ منكم على غير مشورةٍ من المسلمين فاضربوا عنقه"([18]).
وفي لفظ: "إنه لا خلافة إلا عن مشورة"([19]).
وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن عبدالرحمن بن عوف لما رضي به أهل الشورى الخمسة أن يختار واحدًا منهم، ثم لما انحصر الترشيح بين عثمان وعلي رضي الله عنهما: "نهض عبدالرحمن بن عوف t يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين، برأي رؤوس الناس جميعًا وأشتاتًا، مَثنَى وفُرادى، سرًّا وجَهرًا، حتى خلص إلى النساء في خدورهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِدَ من الرُّكبان والأعراب إلى المدينة، وفي مدة ثلاثة أيام بلياليهن. . . "([20]).
وما كان عبد الرحمن ليجتهد في سؤال الناس كل هذا الجهد، لولا أنه حق من حقوقهم يَحرُم الافتئات عليهم فيه، أو مصادرته عليهم، أو اغتصابهم إياه.
وقد أجمع الصحابة على هذا الأصل، ولم يُنكره أحد منهم، وقد كانت بيعة أبي بكر في السقيفة برضا الصحابة -كما في صحيح البخاري([21])-، حيث بايعه عمر، ثم المهاجرون، ثم الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ثم باقي المسلمين في المسجد.
وكذا كانت بيعة عمر برضا جميع الصحابة y، وبعد استشارتهم، كما في ثقات ابن حبان: "دعا أبوبكر نفرًا من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر"([22]).
وهكذا كانت بيعة عثمان، حيث بايعه عبد الرحمن بن عوف ثم المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون، وقد قال عبد الرحمن بن عوف لعلي بن أبي طالب: "إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أَرَهم يعدلون بعثمان؛ فلا تجعلن على نفسك سبيلا"([23]).
قال ابن حجر: "وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد، دليل على تصديقهم عبد الرحمن فيما قال، وعلى الرضا بعثمان"([24]).
فقد جعل عبد الرحمن بن عوف اختيار الناس حجة في الترجيح بين المرشَّحين للخلافة، وهما عثمان وعلي.
وقد قال علي t للصحابة بعد قتل عثمان: "إن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين"، فلما دخل المسجد دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس"([25]).
وفي رواية أخرى أنه خطب فقال: "يا أيها الناس، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمرتم، فإن شئتم قَعَدتُّ لكم، وإلا فلا أجدُ عَلى أحد"([26]).
ومع هذا فقد كان ابنه الحسن يرى ألاَّ يبايع الناس حتى تأتيه البيعة من جميع الأمصار، فقال لوالده: "ألَم آمرك –أي: أُشِير عليك- ألا تُبَايع الناس حتى يَبعَثَ إليك أهل كل مِصرَ ببيعتهم؟! "
فقال: "أمَّا مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار فخشيت أن يضيع هذا الأمر"([27]).
أي فتحدث فتنة، وهذا يؤكد حق الأمة في جميع الأمصار في اختيار السلطة.
ولوضوح هذا المبدأ، وأنه لا سلطة وإمامة إلا بعد عَقد البيعة لها من الأمة؛ بادر الصحابة y لعقدها عند استخلاف الخليفة الأول، فلم يُصبح أبوبكر خليفة إلا بعد عقد البيعة له، ولم يكن لديه من السلطة أو القوة ما يستطيع به أن يمارس صلاحيته كخليفة للمسلمين إلا بموجب هذا العقد الذي تم برضا الصحابة جميعًا: أهل الحلّ والعقد منهم في سقيفة بني ساعدة، وعامة الصحابة في البيعة العامة في المسجد([28]).
ولولا أهمية هذا العقد وضرورته لما أشغل الصحابة أنفسهم به عن دفن رسول الله ﷺ، ولما كان هناك داعٍ أن يعقدها كل من حضر في السقيفة والمسجد لولا ضرورتها، وكذلك لم يصبح عمر خليفة على المسلمين، بمجرد ترشيح أبي بكر له، وهو على فراش الموت، بعد أن استشار الصحابة فرَضُوا به([29])، بل صار عمر خليفة للمسلمين بعد عقد البيعة له، بعد وفاة أبي بكر برضا من الصحابة y ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع الصحابة عن البيعة، لم يصر بذلك إمامًا، وإنما صار أبوبكر إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة"([30]).
وقال أيضا:
"وكذلك عمر لما عهد إليه أبوبكر، إنما صار إمامًا لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدِّر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه، لم يَصِرْ إمامًا. . . "([31]).
وهذا يؤكد أن عهد أبي بكر لعمر كان مجرد ترشيح يَحق للأمة قبوله وإقراره أو رده ورفضه، وأن الجمهور -وهم الأكثرية- هم الذين يرَجِّحون كفة الاختيار عند اختلاف الأمة، وعدم اتفاقها على رأيٍ في موضوع اختيار الإمام والسلطة التي تُمَثّلهم وكيلا عنهم.
وكذلك عثمان لم يُصبح إمامًا وخليفة بمجرد ترشيحِ عمر له في الستة، ولا برضا الخمسة الآخرين به، وإنما صارَ خليفةً للمسلمين بعد أن عَقَدَها الصحابةُ له في المسجد بالبيعة العامة.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان لم يتخلَّف عن بيعته أحد"([32]).
وكذلك الخليفة الراشد علي t لم يصبح خليفة إلا بعد عقد البيعة له، والمعهود إليه من قبل الإمام لا يكون إمامًا بمجرد العهد إليه بعد وفاة الأول، بل لا يكون إمامًا إلا بعقد البيعة له من الأمة؛ كما قال أبو يعلى الحنبلي: "الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد بعقد المسلمين"([33]).
وقال أيضا: "عهده إلى غيره ليس بعقد للإمامة"([34]).
فهو ترشيح يتوقف على عقد الأمة له بعد ذلك.
حقيقة عقد البيعة:
وعقد البيعة كسائر العقود؛ يشترط فيه ما يشترط فيها من حيث الجملة، وهو أشبه العقود بعقد الوكالة؛ حيث الأمة هي الأصيل، ومن تختاره إمامًا لها هو الوكيل عنها في القيام بما أوجب الله على المسلمين القيام به؛ من إقامة العدل والحقوق والحدود والمصالح التي يقوم بها الإمام نيابةً عن الأمة؛ بموجب عقد البيعة.
ومما يؤكد ذلك أن الحقَّ فيها هو للأمة تَعقِدُها لمن تشاء وتصرفها عمّن تشاء، لا ينازعها في ذلك أحد؛ كما قال الماوردي:
"فإن تنازعاها [أي: الإمامة] وادَّعى كل واحد منهما أنه الأسبق، لم تُسمع دعواه، ولم يَحلف عليها، لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق المسلمين جميعًا، فلا حُكم ليمينه ولا نُكولِهِ عنه، ولو أَقَرَّ أحدهما للآخر بالتقدُّم خَرج منها المُقِرّ ولم تَستقر للآخر؛ لأنه مُقرّ في حق المسلمين"([35]).
وكذا لو توافرت صفات الإمامة وشروطها في رجل واحد فقط، فإنه لا يكون إمامًا بمجرد ذلك؛ كما قال الماوردي، وكذا قال أبو يعلى الحنبلي، حيث قال: "كذلك عقد الإمامة؛ لأنه عقد لا يتم إلا بعاقِدٍ كالقضاء، لا يصير قاضيًا حتى يولَّى، ولا يصير قاضيًا وإن وجدت صفته؛ كذلك الإمامة"([36]).
وقال القلقشندي: "لا تنعقد الإمامة إلا بعقد أهل الحل والعقد؛ لأن الإمامة عقد فلا يصح إلا بعاقد، وهو ما عليه جمهور الفقهاء"([37]).
كل ذلك يؤكد أن عقد الإمامة كغيره من العقود، وهو أشبه بعقد الوكالة؛ ينوب فيه الإمام عن الأمة، فهي التي تختاره، كما أنها هي التي لها الحق في عزله، وقد دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية فسَلَّم عليه فقال: "السلام عليك أيها الأجير! ؛ فقيل له: قُلْ. . الأمير. فقال: بل أنت أجير…"([38]).
وهذا يؤكد أن عقد الإمامة في نظر الصحابة هو عقد أشبه بالوكالة، والإمام كالوكيل والأجير للأمة. ولهذا قال عبدالله بن عمر t، عندما أراد معاوية t أن يعهد إلى ابنه (يزيد) من بعده، وطلب من عبدالله بن عمر أن يُبايع على ذلك؛ قال له: "إنما أنا رجل من المسلمين، أدخل فيما دخل فيه المسلمون"، وقال: "والله، لو أن الأمة اجتمعت بعدك على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة. . . "([39]).
فجعل الأمر للأمة يدخل معها فيما تختاره وترضاه؛ مما يؤكد أن حق اختيار الإمام هو حق للأمة وحدها.
وقد نص الفقهاء على كون الإمام وكيلا عن الأمة، فقد جاء في (كشاف القِناع عن متن الإقناع) في فقه الحنابلة: "وتصرفه [أي الإمام] على الناس بطريق الوكالة لهم، فهو وكيل المسلمين، فله عزل نفسه ولهم [أي أهل الحل والعقد] عزله إن سأل العزل؛ لقول أبي بكر الصديق t: أقيلوني أقيلوني. قالوا: لا نُقِيلك"([40]).
وقد علّلوا كونه لا ينعزل بموت أهل الحل والعقد الذين بايعوه؛ لأنه وكيل عن الأمة لا عن أهل الحل والعقد، فقد جاء في كشاف القناع: "ولا ينعزل بموت من بايعه؛ لأنه ليس وكيلا عنه. بل عن المسلمين"([41]).
وكذا علّلوا جواز طلب الإمام من الأمة عزله دون سبب يقتضي عزله، بأنه وكيل عن الأمة، وللوكيل طلب العزل من موكله؛ كما قال أبو يَعلى الحنبلي: "لأنه وكيل للمسلمين وللوكيل عزل نفسه"([42]).
الشريعة مصدر التشريع:
ثالثا: كما في هذا المبدأ تأكيد على أن (الشريعة مصدر التشريع)، فهي المرجعية الدستورية والقانونية الأعلى في النظام السياسي للدولة في الإسلام، بل لا إسلامية للدولة إلا بهذا الأصل، فالشريعة مصدر الأحكام والتشريعات كلها، الدستورية منها والقانونية؛ كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾([43])، وقال تعالى: ﴿إنِ الحكمُ إلا لله﴾([44])، وقال تعالى: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ﴾([45])، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾([46]).
وقد تم تجنُّب عبارة (السيادة للأمة) أو (السيادة للشرع)؛ لكونها مُوهِمة مُشكِلة؛ إذ السيادة لها معنى دستوري وسياسي، وهي تُطلَق ويراد بها أعلى سلطة في الدولة؛ والتي لها حق الطاعة السياسية من جهة (وهي السلطة التنفيذية)، وحق تشريع القوانين وإلزام الناس بها من جهة أخرى (وهي السلطة التشريعية والقضائية)، وهي في الإسلام تختلف عنها في النُّظم الوضعية؛ سواء الدينية الثيوقراطية أو العلمانية الديمقراطية أو الدكتاتورية الشمولية.
وبهذا الأصل يتمايز النظام السياسي في الإسلام عن النُّظم الديمقراطية التي تجعل للشعب حق التشريع المطلق، لتصبح الأكثرية هي التي تتحكم بشهواتها وشبهاتها بالأقلية، ولتمارس الاستبداد نفسه الذي قد يمارسه الملوك ورجال الدين، بينما هو في الإسلام حق لله تعالى وحده؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾([47])، فحق التشريع المطلق، وحق الأمر المطلق هو لله وحده؛ وكما في الحديث: «إنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه»( [48])، وإنما جعل الله للأمة في الإسلام حق الأمر المُقَيَّد، وحق التشريع المُقَيَّد؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾([49])، ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾([50])، وكما في الحديث الصحيح: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» ([51]).
الأصل الثاني: (الحقوق والحريات الفردية والجماعية حقوق شرعية مصونة لجميع الأمة؛ بما في ذلك حق إبداء الرأي ونقد السلطة).
وهذا المبدأ من مبادئ (مؤتمر الأمة)؛ هو أصل من أصول النظام السياسي في الإسلام، فكون الأمّة مصدر السلطة لا يصادر على الأفراد والجماعات حقوقهم وحرياتهم الفردية والجماعية السياسية والقانونية والوظيفية، بل كل ذلك مَصُون كما قرره الإسلام في كل الأحكام.
لقد رسخ الخطاب السياسي الشرعي المنزل مبدأ كرامة الإنسان، وأكد ضرورة حماية الحقوق والحريات الإنسانية؛ كما جاء في القرآن والسنة، ومن ذلك:
أ. حق الإنسان في الحياة وحمايته من الاعتداء؛ مسلمًا كان أو غير مسلم، ما دام في أرض الإسلام:
فقد جاء القرآن ليُحرِّم الاعتداء على النفس الإنسانية تحريمًا قاطعًا؛ إلا في حالة الجزاء ورد الاعتداء، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقّ﴾([52])، وقال: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾([53]).
فجعل إزهاق النفس الإنسانية الواحدة كقتل الناس جميعًا في الحرمة، وإحياءها كإحياء الناس جميعًا.
وأخبر النبي ﷺ أن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، من السَّبع الموبقات كالشرك بالله([54])، وجعل جزاء قتل النفس ظلمًا وعدوانًا القصاص؛ حماية للنفس البشرية من الاعتداء؛ إذ في القصاص حياة للجميع، كما قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾([55])؛ إذ فيه ردع للإنسان عن الإقدام على قتل غيره، فيكون في ذلك حياة للغير، وكذلك حياة لمن أراد قتل غيره بارتداعه وخوفه من القصاص، فيتحقق بذلك الحياة للجميع.
وقد حددت الشريعة الجرائم التي حَدُّها القتل، وحَصَرَتها بصورة محددة لا يمكن تجاوزها، فلا تستطيع السلطة في الدولة الإسلامية أن تتجاوز هذه الصور، فلا يمكن قتل إنسان لمعارضته للسلطة، أو حتى محاولته الاعتداء على رجال السلطة دون قتل. ولهذا لم تعرف الدولة الإسلامية في عهد النبوة والخلافة الراشدة أي حادثة قتل سياسي لمن يعارض السلطة، وقد رفض النبي ﷺ أن يتعرض للمعارضين له داخل المدينة، ممن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم يُحَرِّضُون على إخراج النبي ﷺ من المدينة، بل كانوا يخططون على ذلك؛ كما أخبر القرآن عن مخططاتهم في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾([56])، وقد كانوا يمارسون حياتهم السياسية ويُبدُون آراءهم في شئون الدولة الإسلامية، وقد وصف القرآن حال النبي ﷺ معهم في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾([57]).
وقد شتم رجل الخليفةَ أبا بكر الصديق فأراد أبو بَرزَةَ أن يَقتُله، فغضب أبو بكر t على أبي برزة أشد الغضب، وقال له: "لا والله. . . ما كانت لأحد بعد رسول الله ﷺ"([58]).
وقد رَصَدَ رجل الخليفة عثمان رضي الله عنه يريد اغتياله، فقبضوا عليه، فاستشار عثمان الصحابة y: "فلم يَرَوا عليه قتلا، فأرسله"([59]).
وفي رواية أنهم قالوا: "بئس ما صنع ولم يَقتُلك، ولو قَتلك قُتِل، فأرسله عثمان رضي الله عنه"([60]).
وفي رواية: قال عثمان: "أراد قتلي ولم يُرِد الله، فتَركه ولم يَقتُلْه"([61]).
وفي رواية أن عثمان سأله: "ما هذا؟ "، فقال الرجل: أردت أن أقتُلك، فقال عثمان: "سبحان الله! وَيحَك!. . عَلاَمَ تَقتلُني؟ "، فقال: ظلمني عامِلُكَ باليمن. فقال عثمان: "أفلا رفعتَ إليّ ظَلامَتَك، فإن لَم أُنصِفك أو أعدِيكَ على عاملي أردتَّ ذلك مني؟ "، ثم قال عثمان: "عبدٌ همَّ بذنب فَكَفَّهُ الله عني". قال الراوي: فو الله ما ضربه سوطًا، ولا حبسه يومًا([62]).
وقد أرسل عثمان بن عفان عمار بن ياسر رضي الله عنهما إلى أهل مصر لما ظهرت المعارضة فيها لسياسة عثمان، فانضم عمار للمعارضة، وأَلَّب الناس على عثمان، فكتب أمير مصر ابن أبي السرح إلى عثمان يستأذنه بعقوبة عمار وأصحابه أو قتلهم، فكتب إليه الخليفة: "بئس الرأي رأيت! من أن آذن لك بعقوبة عمار وأصحابه([63]).
وفي رواية: "فأحسن صُحبَتَهم ما صحبوك، فإذا أرادوا الرحلة فأحسن جهازهم، وإياك أن يأتيني عنك خلاف ما كتبت به إليك([64]).
وقد جاء رجل برجل آخر إلى علي t وهو خليفة فقال: يا أمير المؤمنين، إني وجدت هذا يسبك، قال: فسبه كما سبني، قال: ويتوعدك [أي: بالقتل]. فقال علي t: "لا أقتل من لم يقتلني"([65]).
وكل ما سبق يؤكد رسوخ مبدأ حرمة النفس الإنسانية، وأنه لا حق للسلطة في الدولة الإسلامية باستحلال قتل أو تعذيب أحد، أو اضطهاد المعارضة السياسية لمجرد معارضتها الحاكم وسياسته، أو رفضها لحكمه؛ كما جاء في حديث حجة الوداع في الصحيحين: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام»([66])، وجاء في الصحيح: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ. . . »([67]).
ب. حق الإنسان في الحرية:
لقد كان الإسلام دعوة للحرية الإنسانية بمفهومها الشمولي، فشهادة (لا إله إلا الله) نفي صريح لكل أنواع العبودية لغير الله U: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّـهِ﴾([68]).
فالناس جميعًا متساوون في إنسانيتهم وحريتهم، ولا عبودية إلا لله، ولا سيادة لأحد على أحد، وإنما السيد هو الله وحده، فهو الذي يستحق الخضوع والطاعة وحده، وقد كرَّم الله الإنسان فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾([69])، وجعل الله الإنسان خليفته في الأرض: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾([70]).
ولهذا أكد النبي ﷺ هذا المعنى في أحاديث كثيرة، كما في قوله ﷺ: «السَّيِّدُ اللَّـهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»([71])؛ لبيان أن السيادة المطلقة هي لله، والبشر جميعًا إخوة، لا سيادة لأحد منهم على أحد.
فكما للأمة الحق في اختيار السلطة، ومشاركتها الرأي، وحق عزلها؛ فكذا لها الحق في نقدها وتقويمها والاعتراض على سياستها، فالحرية السياسية إحدى أهم الأسس التي قام عليها الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي.
وقد تجلت الحرية في أوضح صورها في حياة النبي ﷺ وعهد الخلفاء الراشدين y ، وقد أرسى القرآن مبدأ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([72])؛ ليؤكد مبدأ الحرية بجميع صورها، فإذا كان الله عز وجل لا يُكرِهُ عِبادَه على الإيمان به وطاعته، فكيف يُتَصَوَّر أن يُكره عباده على الخضوع والطاعة كرهًا لغيره، وهذا معنى كلمة (لا إله إلا الله)، فإن الله وحده هو الذي له الألوهية، ثم الخلقُ بعد ذلك بشر لا طاعة لأحد على أحد، إلا بما كان طاعة لله عز وجل. ولهذا جاءت النصوص عن النبي ﷺ لتَحصرَ الطاعة بطاعة الله عز وجل واتباع رسوله؛ كما قال ﷺ: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّـهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» ([73])، في وقال: «لا طَاعَةَ لمخْلُوقٍ في مَعْصِيةِ الخَالِق»( [74]).
ليؤكد بذلك أن حق السلطة بالطاعة إنما هو منوط بما كان معروفًا أنه طاعة لله، وبهذا سبق الإسلام جميع القوانين في تقييد حق السلطة في الطاعة، وأنها ليست طاعة مطلقة، ولا طاعة لذات السلطة، وأن السلطة تفقد حق الطاعة عندما تأمر بالمنكر أو الظلم، بل ويجب التصدي لها وتقويمها؛ كما قال ﷺ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»([75]).
وقال: «إن النَّاس إذَا رَأَوا الظَّالمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلى يَديه عَمَّهم اللهُ بِعِقَابِه»( [76]).
وقال: «أَفضَلُ الجِهادِ كَلمَةُ حَقٍّ عندَ سُلْطَانْ جَائِرٍ»([77]).
وقال أيضًا: «سَيِّدُ الشُّهَداءِ حَمزة، ورجلٌ قَامَ إلى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَره وَنَهاه؛ فَقَتَله»( [78]).
وقال: «إذَا رَأيتُ أُمَّتِي تَهابُ أَن تَقولَ للظَّالِم: يا ظالم – فقد تُودِّع منها»([79]).
وقال: «لتأخذن على يدِ الظالم، ولتأطِرنّه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضِكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم»([80])، والأطر هو الرد والثني.
إن السلطة مسئولة عن تصرفاتها من قِبَلِ الأمّة؛ كما جاء في الحديث: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»([81]).
وقد أكد القرآن هذا المبدأ في قوله تعالى عن اختصاصه بالإرادة المطلقة وحده لا شريك له ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾([82])، فالله وحده هو الذي لا يُسأل عما يفعل، أما من سواه فكلهم مسئول عما يفعل.
الحرية السياسية في العهد النبوي والراشدي:
ولهذا تَجَلَّت الحرية في أوضح صورها في الخطاب السياسي النبوي، فقد كان مع النبي ﷺ في المدينة من كان يُضمِرُ العداوة له ﷺ ويَكيدُه كالمنافقين في المدينة، وكان يَعرِفُهُم ولم يتعرض لهم، وقد نزل قول الله تعالى في شأن زعيمهم عبدالله بن أُبَي ابن سلول ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾([83])، وهذا عزم على إسقاط الدولة الإسلامية، وإخراج النبي ﷺ من المدينة، ومع ذلك لم يتعرض له النبي ﷺ بشيء. بل قال -بعد أن بلغه هذا الخبر عن ابن أُبي ابن سلول، وأراد بعض الصحابة قتله-: «لا بل نُحسِنُ صُحبَتَه»، وقال: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»( [84]).
وقد قال رجل للنبي ﷺ معترضًا عليه في قسمة: "اعدِلْ يا محمد، فإنك لم تعدل! وإن هذه القسمة ما أُرِيدَ بها وجه الله؟! "، فقال النبي ﷺ: "ويحك! مَنْ يَعدِلُ إن لَم أَعدِلْ؟ "، فأراد الصحابة ضربه فقال ﷺ: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي"([85]).
وقال له رجل يهودي -وكان النبي ﷺ في مجلس مع أصحابه- «يا بني عبد المطلب، إنكم قومُ مَطْلٍ»، أي: لا تُؤَدُّونَ الحقوق، وقد كان النبي ﷺ قد استسلف منه مالًا، فأراد عمر رضي الله عنه أن يضرب اليهودي، فقال له النبي ﷺ: «إنَّا كنا أحوجُ إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمره بِحُسنِ الطلب، وتأمرني بِحُسنِ الأداء»([86]).
وقد اعترض عمر بن الخطاب على النبي ﷺ في صُلح الحديبية، وقال له: «عَلامَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ في ديننا؟!»([87]).
وكذلك كان الحال في عهد الخلفاء الراشدين، فقد كان المسلمون يعترضون على سياستهم، وينتقدون ممارساتهم، ولم يتعرض أحد للأذى بسبب هذه المعارضة، مما يدل على رسوخ مبدأ الحرية السياسية، وقد خطب أبو بكر الصديق -بعد أن أصبح خليفة- فقال: "إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقَوِّمُوني»؛ ليؤكد مبدأ الحرية السياسية، وحق الأمّة في نقد سياسة الإمام وتقويمه.
كما كان الحوار الذي دار بين المهاجرين والأنصار في السقيفة، في شأن الخلافة أُنمُوذجًا يؤكد مدى الحرية السياسية التي كان يمارسها الصحابة، وقد كان الخلاف جَليًا بين المهاجرين والأنصار في شأن تولي السلطة بعد النبي ﷺ، حتى قال الحَبَّابُ بن المنذر الأنصاري يومها: "منا أمير ومنكم أمير"، ورَدَّ عليه أبوبكر بقوله: "قد عرفتم أن هذا الحيَّ من قريش بمنـزلة من العرب ليس بها غيرهم، وإن العرب لا تجتمع إلا على رجل منهم"، وفي رواية: "لن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش" ([88]).
وقد اعترض عمر على أبي بكر عندما أراد قتال أهلِ الردة، وما زال أبو بكر يُجادِل الصحابةَ حتى أقنعهم برأيه ([89]).
ودخل رجل على أبي بكر فأغلظَ الرجل القول لأبي بكر، فقال أبو بَرزَةَ الأسلمي: "ألا أضربُ عنقه يا خليفة رسول الله؟ "، فغضب أبو بكر من هذه الكلمة التي قالها أبو برزة، وقال: "لا والله ما كانت لأحد بعد رسول الله"([90]).
وقد اعترض بلال الحبشي t ومعه جماعة من الصحابة على سياسة عمر في شأن الأرض المَغنُومة، وطالبوه بتقسيمها على الفاتحين، ورأى عمر وقفها على جميع المسلمين، وما زالوا يُجادلونه حتى دعا الله عليهم، وكان يقول: "اللهم اكفني بلالا".
فلم يجد الخليفة من وسيلة لمواجهة معارضيه في هذه القضية إلا محاورتهم ثم الدعاء عليهم، وقد كان بلال أشد الناس معارضة لعمر، فجمع عمر الصحابة وقال لهم: "قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين يزعمون أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلمًا، لئن كنت ظلمتهم شيئًا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شَقِيت"([91])، وقد رضي الناس واقتنعوا برأي عمر، وأجمع الصحابة عليه بعد ذلك، وقد استطاب نفس من لم يرضَ منهم([92]).
وإذا كانت المعارضة الفردية لسياسة الخلفاء هي الأبرز في عهد أبي بكر وعمر، فقد ظهرت جماعات منظمة معارضة لسياسة عثمان t واستطاعت أن تستقطب إلى صفوفها بعض الصحابة كعمار بن ياسر الذي أرسله عثمان لمعرفة أخبار هذه المعارضة في مصر، فانضم إلى صفوفها([93]).
وقد تم الاتفاق بين المعارضة وبين الخليفة الراشد عثمان بن عفان على شروط إصلاحية، وتم توثيقها بحضرة علي بن أبي طالب، وقد أثنى عثمان على الوفد المصري الذي عَقَدَ معهم الاتفاق([94]).
وفي رواية: فقالوا [أي المعارضة]: والله لقد أحسنت يا أمير المؤمنين - في أمور سألوه عنها فَتَابَ منها ورجع عنها- ثم قام خطيبًا، فقال: "ما رأيت ركبًا كانوا خيرًا من هؤلاء الركب، والله إن قالوا إلا حقًّا، وإن سألوا إلا حقًّا"([95]).
كل ذلك يؤكد مدى الحرية السياسية التي رَسَخَت في عهد الخلفاء الراشدين، فلم يَقُم عثمان t بمجابهة هذه المعارضة، كما أشار عليه بعض قادة جيوشه، بل رأى أنه لم يَصدُر عنهم ما يَستَحِلُّ به دماءهم، ولم يَرَ بُدًّا من الجلوس معهم ومحاورتهم، وسماع مطالبهم، وإجابتهم إلى ما طلبوا، وقد أشار علي t على عثمان بذلك أيضًا.
لقد أدرك الخليفة والصحابة الذين معه مشروعية ما قام به المعارضون من معارضة جماعية لسياسة السلطة من باب الأمر بالمعروف؛ ولهذا أَقَرَّهم عثمان على ما فعلوا، ووافق على شروطهم، وكذا أقرهم الصحابة الآخرون، ولو كان ما فعلوه منكرًا لما جلس معهم عثمان، ولما أثنى عليهم، ولما استجاب لشروطهم، ولما كان علي t هو الواسطة. بل لبادر الصحابة والخليفة إلى منع هذا المنكر وإزالته ومواجهته؛ لقوله ﷺ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»([96]).
إن كل هذه الحوادث التاريخية تؤكد رسوخ مبدأ الحرية السياسية الفردية والجماعية في عصر الخلفاء الراشدين، فقد كان الأفراد والجماعات يبدون آراءهم، ويبدون معارضاتهم لسياسة الخلفاء بكل حرية، ودون خوف من الاضطهاد، أو مصادرة الحقوق والحريات، وقد تَجَلَّى ذلك في أوضح صوره بعد ظهور (حركة الخوارج)، التي تُعَدُّ أشد الحركات السياسية تطرفًا، فإذا كانت الاختلافات قبل ذلك بين القوى الاجتماعية والأحزاب خلافات سياسية تتعلق بموضوع الإمامة وسياسة شئون الدولة؛ فإن حركة الخوارج تُعدُّ أول حركة فكرية سياسية معارضة، وهي مع ذلك حركة مسلحة، وقد خرجت على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب بعد التحكيم، وحكمت عليه بالكفر وعلى من معه من الصحابة!.
لقد خرجوا عن طاعته، وكانوا يطعنون فيه، وهو يخطب على المنبر، فكان لا يتعرض لهم، بل قال كلمته المشهورة التي أصبحت قاعدة راسخة في التعامل مع الطوائف المخالفة في الفكر والرأي، حيث قال:
"لهم علينا ثلاث:
ألاَّ نَبدَأَهم بقتالٍ ما لم يُقاتِلونا،
وألاَّ نَمنَعَهم مساجدَ الله أن يَذكُرُوا فيه اسمَه،
وألاَّ نَحرِمَهم مِنَ الفَيءِ ما دامت أيديهم مع أيدينا" ([97]).
ثم اشترط مقابل ذلك عليهم فقال:
"على ألا تسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلًا، ولا تظلموا ذميًّا".
قالت عائشة رضي الله عنها: فلم قاتَلَهم إذًا؟!
فقال عبد الله بن شداد: "والله ما بَعَثَ إليهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدماء، واستحلوا الذمة"([98]).
وهذا يؤكد مدى الحرية الفكرية والسياسية التي كان يمارسها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين، فقد تعامل علي t مع الخوارج قبل أن يَسُلُّوا السيف على الأمّة بالمنهج نفسه الذي اتبعه عثمان t مع من خرجوا عليه، فكانوا يَطعنون في رأيه، وينتقدون سياسته، فكان يُعرِضُ عنهم؛ إذ لا يرى أن مثل هذه المعارضة تستوجب قتلهم أو حبسهم أو ضربهم؛ قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد هذه النصوص عن علي t: "فيه الكَفُّ عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصب لذلك حربًا، أو يستعد لذلك لقوله: (إذا خرجوا فاقتلوهم)، وحكى الطبري الإجماعَ على ذلك في حق من لا يَكفُرُ باعتقاده، وأسند عن عمر بن عبدالعزيز أنه كتب في الخوارج بالكفِّ عنهم ما لم يَسفكوا دمًا حرامًا، أو يأخذوا مالًا، فإن فعلوا فقاتلوهم ولو كانوا ولدي.
ومن طريق ابن جُرَيج: قلت لعطاء: ما يَحِلُّ في قتال الخوارج؟
قال: "إذا قطعوا السبيل، وأخافوا الآمن".
وأسند الطبري عن الحسن أنه سئل عن رجل كان يرى رأي الخوارج ولم يَخرُج؟
فقال: "العمل أملك بالناس من الرأي. . . " ([99]).
أي: لا يؤاخذون بمجرد تطرف آرائهم حتى يتحوّل الرأي إلى سلوك وممارسة.
ونَقَلَ عن الخطابي قوله: "أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج - مع ضلالتهم- فرقة من فرق المسلمين، وأنهم لا يَكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام" ([100]).
وقال: "وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن علي، ذكر الخوارج، فقال: إن خالفوا إمامًا عدلًا فقاتلوهم، وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالًا" ([101]).
قال الحافظ: "وعلى هذا يُحمَلُ ما وقع للحسين بن علي، ثم لأهل المدينة في الحرة، ثم لعبدالله بن الزبير، ثم للقراء الذين خرجوا على الحجاج" ([102]).
لقد شهد علي t للخوارج بأنهم مسلمون، فقد سئل عنهم: أَكفَّارٌ هم؟
قال: "من الكفر فَرُّوا"!.
فقيل له: أَمنافقون هم؟
قال: "إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا"
قيل: فَمَا هم؟ قال: "قومٌ بَغَوا علينا" ([103]).
بل لقد نَهى عن سَبِّهم وشَتمِهم فقال: "لا تَسُبُّوهم، ولكن إن خرجوا على إمام عادل فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم بذلك مقالًا" ([104]).
وقد سار الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز بسيرة علي t في الخوارج، فقد خاصمهم وجادلهم ثم قال لرجل أرسله إليهم: "إن قتلوا وأفسدوا في الأرض فَاسطُ عليهم وقاتلهم، وإن هم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض فدعهم يسيرون" ([105]).
ورواه الحسن البصري عن أبيه قال: "قُرِئ كتاب عمر بن عبد العزيز علينا: إن سفكوا الدم الحرام، وقطعوا السبيل، فتَبَرَّأ من الحرورية وأْمُر بقتالهم" ([106]).
وهذا ما استَقَر عليه رأي جمهور الفقهاء، كما قال ابن قدامة:
"إذا أظهر قومٌ رأي الخوارج؛ مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين، وأموالهم، إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام. . . ، فإنه لا يَحِلُّ بذلك قتلهم ولا قتالهم، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه. . . ، واحتجوا بفعل علي t، فإنه قال: لكم علينا ثلاث؛ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال. . . ، وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبدالعزيز: أن الخوارج يَسُبُّونك، فكتب إليه: إن سَبُّونِي فسُبُّوهم أو اعفُوا عنهم، وإن شَهَرُوا السلاح فاشهروا عليهم، وإن ضربوا فاضربوا. . . ؛ ولأن النبي ﷺ لم يَتَعَرَّض للمنافقين الذين معه في المدينة فغيرهم أولى" ([107]).
لقد كانت هذه السياسية التي سار عليها علي بن أبي طالب تُمثل تعاليم الإسلام المُنَزَّل بأوضح صورها وأعدلها، حيث ضمن لمخالفيه في الرأي – مع تطرفهم وغُلُوِّهم– الحرية العقائدية والفكرية والسياسية والحقوق المالية، فلم يقاتلهم إلا دفعًا لعدوانهم ومنعًا لفسادهم، لا لفساد آرائهم وتطرفها أو معارضتهم له في الرأي؛ لعلمه t أن الدين الذي جاء بمبدأ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([108])، فلم يَضِقْ ذرعًا بوجود أديان أخرى في ظل عدل الإسلام؛ لا يمكن أن يضيق ذرعًا - من باب أولى- بالخلاف في الرأي بين أهل الدين الواحد فيما تأولوا فيه، وهذه السنة التي سَنَّها الخليفة الراشد الرابع، وأجمع عليها الصحابة y وسار عليها الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز: هي التي كان لها أكبر الأثر فيما بعد في استقرار المجتمع الإسلامي مع كثرة الطوائف الفكرية والمذاهب الفقهية والأحزاب السياسية، التي كانت تَعُجُّ بها الدولة الإسلامية وعواصمها الرئيسة.
فلم يَعرف المسلمون في تاريخهم حروبَ الاضطهاد الديني أو استئصال الطوائف المخالفة في الرأي، كما حدث في أوربا؛ لرسوخ مبدأ الحرية بمفهومه الشمولي.
كل ذلك يؤكد أهمية الحرية في الشريعة الإسلامية؛ إذ المقصود ألا تكون هناك أي عبودية إلا لله وحده، ولهذا قال عمر كلمته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! "([109]).
مقتضيات الحرية الإنسانية:
وحرية الإنسان تقتضي ألاَّ قَيد على تصرفاته، وليس للسلطة أن تمنع الإنسان من أي فعل إلا إذا كان محظورًا أو يفضي إلى الضرر بالمصلحة العامة أو بالآخرين.
إنَّ حرية الإنسان تقتضي عدم وضع أي قيد على هذه الحرية، وعدم إكراه الإنسان بأي نوع من أنواع الإكراه. ولهذا قرر الإسلام مبدأ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([110])والدين بمفهومه العام يعني الطاعة والخضوع.
ولهذا لا يحق للسلطة أن تخضع الأفراد لطاعتها بالقوة والإكراه، ولا أن تلزمهم برأي أو وجهة نظر، بل للإنسان الحرية في أن يؤمن أو لا يؤمن ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾([111])، ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين﴾([112])، وله الحرية في اتباع دينه الذين يدين به ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾([113][114]).
كما للإنسان غير المسلم في الدولة الإسلامية أن يحتكم إلى شريعته الخاصة في الشئون الخاصة لطائفته؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾([115]).
كما للإنسان في ظل الشريعة الإسلامية الحق في حرية التملك والبيع والتجارة والتنقل والعمل وتقاضي الأجرة المناسبة للعمل؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾([116])، وقوله ﷺ: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يَجِفَّ عرقه([117]).
وكذا حرية إبداء الرأي ونقد السلطة: "إن لصاحب الحق مقالا"، "وأن نقول الحق حيثما كان، لا نخاف لومة لائم"([118]).
وله رفض تنفيذ أي أمر للسلطة يتنافى مع عقيدته ويرى حرمته؛ لحديث "إنما الطاعة بالمعروف"، كما له الحق في ألا ينتزع ماله منه إلا بطيب نفس منه ورضا؛ لقوله ﷺ: "لا يحل أخذ مال امرئ إلا بطيب نفس منه"([119])، ولقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾([120]).
كما له الحق في الانتماء إلى أي حزب أو جماعة شاء، فإذا جاز الانتماء للأديان الأخرى والتحاكم إلى شرائعها الخاصة ورؤسائها في ظل الشريعة الإسلامية، فالانتماء إلى الجماعات الفكرية والسياسية جائز من باب أولى، ولهذا السبب لم يعترض عثمان ولا علي -رضي الله عنهما - على الانتماء للجماعات السياسية أو الفكرية كالخوارج؛ إذ لم يَرَ علي t أن له حقًّا في منعهم من مثل هذا الانتماء، ما لم يخرجوا على الدولة بالقوة؛ لوضوح مبدأ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([121]).
والمقصود بالجواز والحق هنا الجواز والحق القضائي الذي لا تستطيع السلطة مصادرته، لا الجواز ديانة وإفتاءً؛ إذ يحرم الانتماء للخوارج وأهل الأهواء المخالفة للسنة، إلا أن الصحابة لم يروا لهم عليهم سبيلًا في منعهم من هذا الانتماء؛ لقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([122])؛ ولإجماع الصحابة y على عدم التعرض للخوارج ما لم يَصُولوا على الناس بالسيف؛ فمن باب أولى الانتماء للجماعات السياسية التي تطرح برامج إصلاحية، وتسعى للوصول إلى السلطة بالطرق السلمية دون مصادمة لدين الدولة.
كما للإنسان الحق في رفض الظلم ومقاومته، حتى وإن وقع من السلطة؛ لحديث «من قُتل دون ماله فهو شهيد»([123])، وقد احتج بهذا الحديث عبدالله بن عمرو بن العاص، عندما أجرى أمير مكة والطائف عنبسة بن أبي سفيان عين ماء ليسقي بها أرضه، فدنا من حائط بستان عبدالله بن عمرو، فاعترض عبدالله عليه وجاء بمواليه وسلاحه، وقال للأمير: "والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد، فركب إليه خالد بن العاص فوعظه، فرد عليه عبدالله بن عمرو واحتج بحديث «من قُتل دون ماله فهو شهيد» ([124]).
وقد سأل رجل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟
قال: «فلا تعطه مالك»!
قال: أرأيت إن قاتلني؟
قال: «قاتله»!
قال: أرأيت إن قتلني؟
قال: «فأنت شهيد»!
قال: أرأيت إن قتلته؟
قال: «هو في النار»([125]).
وقد احتج سعيد بن زيد - أحد المبشرين بالجنة - بحديث «من قتل دون ماله فهو شهيد»، لما جاء جماعة من قريش يُكَلِّمُونه في شيء من أرضه، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد»؛ وفي رواية «من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد، ومن قاتل دون دمه فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فهو شهيد»([126]).
قال ابن المنذر: "الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذُكِرَ إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل"([127]).
وفي رواية: "من أريد ماله بغير حق، فقاتل فقتل فهو شهيد" ([128]).
قال الخطابي: "دل ذلك على أن من دافع عن ماله أو أهله أو دينه فقتل، كان مأجورًا نائلًا منازل الشهداء" ([129]).
وقد كتب أبوبكر الصِّدِّيق كتابَ الزكاة إلى أنس بن مالك أميرِ البحرين، وفيه: "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله ﷺ على المسلمين، والتي أمر الله U بها رسوله ﷺ، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط" ([130])، قال ابن حجر: "أي مَن سُئل زائدًا على ذلك في سِنٍّ أو عدد فله المَنعُ، ونقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه" ([131]).
فليس للسلطة أخذ أموال الناس بالباطل، فإن فعلت؛ فجائز لهم دفعها عن ذلك، والامتناع عن طاعتها ومقاومتها؛ وقال ابن حزم -بعد أن ذكر حديث عبدالله بن عمرو وقصته، وحديث أبي بكر في الزكاة-: "فهذا رسول الله ﷺ يأمر من سئل ماله بغير حق ألا يُعطيه، وأَمَرَ أن يقاتل دونه، فَيَقتُل مصيبًا سديدًا، أو يُقتل بريئًا شهيدًا، ولم يَخُصَّ عليه السلام مالًا من مال، وهذا أبو بكر وعبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- يَرَيَان السلطانَ في ذلك وغيرَ السلطان سواء" ([132]).
وقال ابن حزم أيضًا في بيان الفرق بين قتال الباغي وغيره:
"ومن قام لعرض دنيا فقط، كما فعل يزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وعبدالملك بن مروان في القيام على ابن الزبير، فهؤلاء لا يُعذَرُون؛ لأنهم لا تأويل لهم أصلا، وهو بغي مُجَرَّدٌ، وأما من دعا إلى أمر بمعروف أو نهى عن منكر، وإظهار القرآن والسنن والحكم بالعدل، فليس باغيًا، بل الباغي من خالفه، وهكذا إذا أريد بظلم فمَنَعَ من نفسه، سواء أراده الإمام أو غيره، وهذا مكان اختلف الناس فيه، فقالت طائفة: إن السلطان في هذا بخلاف غيره ولا يُحارب السلطان؛ وخالفهم آخرون فقالوا: السلطان وغيره سواء، كما: أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عامل له أن يأخذ الوهط ([133])، فبلغ ذلك عبدالله بن عمرو بن العاص، فلبس سلاحَه هو ومواليه وغلمته، وقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من قتل دون ماله مظلومًا فهو شهيد».
قال ابن حزم: فهذا عبدالله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة سائرهم y يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عاملِ أخيه معاوية أميرِ المؤمنين؛ إذ أمره بقبض الوهط، ورأى عبدالله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب، وما كان معاوية ⌂ ليأخذ ظلمًا صُرَاحًا، لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك، ورأى عبدالله بن عمرو أن ذلك ليس بحق، ولبس السلاح للقتال، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة y، وهكذا جاء عن أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان وأصحابهم، أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سُئِلوا عن خروجهم، فإن ذكروا مظلمة ظُلموها أُنصفوا، وإلا دُعوا إلى الفيئة، فإن فاءوا فلا شيء عليهم، وأن أَبَوا قوتلوا، ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضًا.
فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نرد ما اختلفوا فيه إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد إليه؛ إذ يقول تعالى ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُول﴾([134])، ففعلنا فلم نجد الله تعالى فَرَّقَ في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره. بل أمر تعالى بقتال مَنْ بغى على أخيه المسلم عمومًا، حتى يفيء إلى أمر الله تعالى، وما كان ربك نسيًّا، وكذلك قوله عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد أيضًا»، عموم لم يُخَص معه سلطانًا من غيره، ولا فرق في قرآن ولا حديث ولا إجماع ولا قياس بين من أُريد مالُه أو أُريد دمُه أو أريد فَرجُ امرأته، أو أريد ذلك من جميع المسلمين، وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله، وهذا لا يَحِلُّ بلا خلاف"([135]).
وقد كان بين الحسين بن علي، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال، كان بينهما بذي المروة، فكأن الوليد تَحَامَل على الحسين بن علي في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: "أُقسم بالله، لتنصِفَنَّ لي من حقي، أو لآخذنَّ سيفي، ثم لأَقُومَنَّ في مسجد النبي ﷺ، ثم لأدعونَّ بحلف الفضول؟ ".
فقال عبدالله بن الزبير – حين قال الحسين ما قال-: "وأنا أحلفُ بالله، لئن دعا به لآخذنَّ سيفي، ثم لأقُومنَّ معه، حتى يُنصَف من حقه أو نموت جميعًا"؛ فبلغتْ المُسَوَّرَ بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك؛ وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبدالله التيمي فقال مثل ذلك؛ فلما بَلَغَ الوليدُ بن عتبة أنصف حسينًا من حقه([136]).
وكل هذه الحقوق لا فرق فيها بين مسلم وغير مسلم في الدولة الإسلامية، فقد قال النبي ﷺ: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلفا، ما أحب أن لي به حُمرَ النِّعَم، ولو أدُعِىَ به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يَرُدُّوا الفضول على أهلها، وألا يغزو ظالم مظلومًا"([137]).
وكان الحلف على التناصر، والأخذ للمظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوي، وللغريب من القاطن.
وقد أراد زياد بن حدير -وكان جابيًا على نهر الفرات- أن يأخذ من تاجر نصراني ذِمِّي نصف العشر مرتين في دخوله وخروجه، فذهب التاجر راحلًا إلى عمر بن الخطاب، فاشتكى إليه من زياد، فكتب عمر إلى زياد: ألا يأخذ منهم نصف العشر إلا مرة واحدة؛ فجاء النصراني إلى عمر، فقال: أنا الشيخ النصراني الذي كلمتك في زياد، فرد عليه عمر: وأنا الشيخ الحنيفي قد قضيت حاجتك([138]).
وقد أراد بعض الخلفاء من بني أمية هدم بعض كنائس أهل الذمة وتحويلها، فاعترض أهل الذمة على ذلك، وأخرجوا عهود الصلح بينهم وبين المسلمين، وفيها عدم التعرض لمعابدهم، كما اعترض الفقهاء على ذلك أيضًا وعابوا على من أراد هدمها أو تحويلها، واحتجوا بإمضاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي y لعهود الصلح، وإقرارهم ما فيها من شروط في صالح أهل الذمة([139]).
كما يجب على الدولة الإسلامية أن تَفُكَّ الأسارى، سواء أكانوا مسلمين أم أهل ذمة، وتفاديهم من بيت مال المسلمين، قال أبو عبيد: "وكذلك أهل الذمة يُجاهد من دونهم، ويُفتك عناتهم، فإذا استنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحرارًا، وفي ذلك أحاديث…)([140])، واستدل بعموم حديث «فكوا العاني [يعني الأسير] وأطعموا الجائع»([141])، وبوصية عمر بن الخطاب وفيها: "وأوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفوا فوق طاقتهم".
وقد قام أمير الشام صالح بن علي بن عبدالله بن عباس، عم الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، بإجلاء بعض نصارى جبل لبنان، بعد أن أحدثوا حدثًا، فاعترض عليه الإمام الأوزاعي، وكتب إليه برسالة فيها بيان بطلان تَصَرُّف الأمير فقال:
"كيف تؤخذ عامة بعمل خاصة؟! مما لم يكن تَمالأ، عليه خروج من خرج منهم، ولم تُطْبق عليه جماعتهم، فيُخرجون من ديارهم وأموالهم؟!
وأحق الوصايا بأن تحفظ وصية رسول الله ﷺ وقوله: "من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه"، من كانت له حرمة في دَمه فله في ماله والعدل عليه مثلها([142])، فإنهم ليسوا بعبيد، ولكنهم أحرار أهل ذمة"([143]).
الأصل الثالث: (الخلافة والحكومة الراشدة، والشورى والتعددية، والأخذ برأي الأكثرية؛ من أصول الحكم وحقوق الأمّة).
الخلافة الراشدة: هي النظام السياسي الشرعي في الإسلام، كما أمر بذلك النبي ﷺ: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) وأعظم سننهم هو إقامتهم للخلافة الراشدة بعد عهد النبوة، وهو النظام السياسي الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وليست الخلافة الراشدة مرحلة زمنية تنقضي بالخلفاء الراشدين، بل هي أصول وقواعد للحكم، وأحكام وسنن لسياسة الأمَّة، على هدى الكتاب والسنة.
والشورى: هي حق الأمّة في اختيار السلطة بالرضا والاختيار ابتداء؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾([144])؛ وحقها بعد اختيار السلطة ألاَّ تتصرف السلطة بشأن من شئون الأمّة إلا برضاها وشوراها؛ كما قال تعالى: ﴿وشَاوِرْهُم في الأمر﴾([145])؛ وحقها في عزلها انتهاء.
والتعددية: هي حق الأمّة في الاختيار في الشورى بين عدد من المرشحين للسلطة، وحق المرشحين في التنافس فيها.
والأكثرية: هم الجمهور من الأمّة، ممن يشاركون في اختيار السلطة ابتداء، والجمهور من أهل الحل والعقد الذين تختارهم الأمّة للفصل في شئونها انتهاء.
وقد أتى الخطاب السياسي القرآني والنبوي بمبدأ الشورى؛ ليمنع من أن تكون السلطة دُولة بين طَبقة أو أسرة أو حزب معين؛ وليفتح المجال أمام التعددية والتداول السلمي للسلطة، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾([146])، ليتم تداول السلطة بين الأمّة وفق رضاها واختيارها، دون سيطرة من أحد على أحد، ودون اغتصاب أحد لحق الأمّة فيها؛ وليَمنع من قيام سلطة استبدادية تسيطر على الأمّة سياسيًّا.
فقد تقرر في السقيفة، وفي خطبة عمر t، في محضر الصحابة y وبإجماعهم:
1. مبدأ حُرمة اغتصاب الإمارة والخلافة؛ كما قال عمر: "إني قائم فمُحَذِّرُ الناس هؤلاء الذين يريدون أن يغتصبوا الأمّة أمرهم".
2. ومبدأ أن الأمر شورى، وأنه لا بيعة ولا طاعة لمن اغتصبها "من بايع أميرًا دون شورى المسلمين؛ فلا بيعة له".
3. وأن جزاء من اغتصب السلطة وبايع دون شورى المسلمين؛ القتل؛ كما قال عمر: "تغرة أن يقتلا"، وفي رواية: "من بايع دون شورى فلا يَحلُّ لكم إلا أن تقتلوه".
4. ومبدأ الترشيح؛ لقول أبي بكر: "اختاروا أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة".
5. وضرورة رضا الأمّة "إن العرب لا تعرف أو لا ترضى إلا بهذا الحي".
6. ومبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة "منا أمير ومنكم أمير"؛ ولا يُتَصوَّر أن يكون هناك أميران في وقت واحد، فهذا ما لا يمكن حدوثه، والصحابة أعقل من أن يَطرَحوا مثل هذا الرأي. بل المقصود في قولهم: "منا أمير ومنكم أمير"، أي: تارة نَختار منكم خليفة، وتارة نَختار منا خليفة؛ كما فسرتها رواية الزهري ففيها:
(قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير، نختار رجلًا من المهاجرين، حتى إذا مات اخترنا رجلًا من الأنصار، حتى إذا مات اخترنا رجلًا من المهاجرين، وهكذا حتى يشفق المهاجري إذا زاغ أن ينقض عليه الأنصار، ويشفق الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه المهاجري)([147]).
وهذا بعينه هو مبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة بين حزبين سياسيين يتنافسان على الوصول إلى السلطة، كما ظهر هذا المبدأ مرة ثانية عندما تنافس الستة الذين اختارهم عمر ورشحهم للإمامة؛ إذ هذا الاختيار لستة مرشحين هو تكريس لمبدأ التداول السلمي للسلطة، وترسيخ لمبدأ التعددية، وفتح للطريق أمام التنافس المشروع على السلطة، على أن تكون الأمّة هي الحكم والمرجح بأي وسيلة تحقق هذا الغرض.
لقد كان بإمكان عمر أن يزكي لها واحدًا، ويدع الخيار بعده للأمة، إن شاءت رضيت به فبايعته، أو انصرفت عنه لغيره، غير أنه رشح لها ستة من خيرة الصحابة، ليكون المجال مفتوحًا للأمة لتختار واحدًا منهم.
وهذا ما أدركه علي ومعاوية رضي الله عنهما بموافقتهما على مبدأ التحكيم؛ إذ هو رد للأمر إلى الأمّة؛ لتختار واحدًا منهما أو غيرهما، وهذه هي التعددية السياسية.
7. فإذا اختلف الناس في الشورى على رأيين سواء عند اختيار الإمام والسلطة، أو عند اتخاذ قرار في شأن من شئون الأمّة، فإن الأمر يحتاج إلى الترجيح بالأكثرية، كما فعل عمر عندما اختلف عليه الصحابة في شأن الأرض المغنومة، فقد استدعى عشرة من الأنصار: خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج.
وكذا استخدم هذه الطريقة عندما رشح الستة للخلافة من بعده، بعد أن طلب المسلمون منه أن يرشح لهم من يراه أهلا، فقد جعل ابنه عبد الله بن عمر سابعهم على أنه ليس له من الأمر شيء، وإنما أدخله طلبًا للترجيح في حالة ما إذا تساوت الأصوات، كما في صحيح البخاري: "يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء"([148]).
وفي رواية قال: "إذا اجتمع ثلاثة على رأي، وثلاثة على رأي، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه، فقدِّموا من معه عبد الرحمن بن عوف"([149]).
وفي رواية: "يا عبدالله بن عمر، إن اختلف القوم -أي الستة- فكن مع الأكثر، وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتبع الحزب الذي فيه عبدالرحمن"([150]).
وفي رواية أخرى: "قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى: تشاوروا في أمركم، فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى، وإن كان أربعة واثنان، فخذوا صنف الأكثر"([151]).
وفي رواية أن عمر قال لصهيب: (أحضر عبدالله بن عمر، ولا شيء له من الأمر، وقُم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلًا، وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلًا منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلًا منهم، وثلاثة رجلًا منهم، فحكِّمُوا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلًا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس"([152]).
وفي رواية عنه عند ابن سعد: "ثم اجمعوا في اليوم الثالث أشراف الناس وأمراء الأجناد، فأمِّروا أحدكم، فمن تأمر من غير مشورة فاضربوا عنقه"([153]).
وفي رواية: "ويصلي بالناس صهيب، وأحضروا عبد الله بن عمر، فإن أجمع خمسة وأبى واحد فاجلدوا عنقه"([154]).
الأصل الرابع: (وحدة الأمّة واتحادها ضرورة شرعية، وحق مشروع لجميع شعوبها).
وهذا المبدأ أصل من أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة﴾([155]) وقال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾([156])، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾([157]).
فوحدة الأمّة ضرورة شرعية وسياسية، وحق لشعوبها ويؤمن (مؤتمر الأمّة) بأن تقسيم الأمّة إلى شعوب ودول قد أدى إلى ضعف الأمّة وتشرذمها، وسيطرة العدو الخارجي عليها عسكريا وسياسيا واقتصاديا؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم﴾([158]).
ويجب تعزيز التكامل السياسي والاقتصادي والعسكري بين دولها للوصول إلى (أمة واحدة وخلافة راشدة)، وتحقيق الوحدة والاتحاد بينها بالوسائل السلمية التي تحقق لشعوبها الأمن والاستقرار والازدهار.
الأصل الخامس: (العدل والمساواة بين الناس، ورفض جميع صور الظلم والتمييز؛ من أوجب الواجبات الشرعية، وأهم الحقوق الإنسانية).
وهذا المبدأ أصل من أصول الخطاب السياسي الإسلامي، أكَّدَه القرآن العظيم في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل﴾ ([159])، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾([160]). بل جعل الله الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب تحقيق هذه الغاية؛ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط﴾ ([161]).
وقد حرَّم الإسلام كافة صور الظلم، ومما يؤكد ذلك الحديث القدسي الصحيح: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا»([162])، وحديث: «اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»([163])، وكما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾([164])، وقال: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ ([165])، وقال سبحانه: ﴿وما كُنَّا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون﴾ ([166])، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار﴾([167]).
كما رفض الإسلام كل صور التمييز بين الناس، وأكد مبدأ المساواة بينهم؛ فلا فرق بين ضعيف وشريف، ولا غني وفقير، ولا عربي وعجمي، ولا ذكر وأنثى؛ كما جاء في الحديث الصحيح: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» ([168])، وفي الحديث: «إن الله قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهلية، وفخرها بالآباء، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب» ([169])، وقال: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى» ([170])، وكما في قوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» ([171])، وكما قال في شأن النساء المؤمنات: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾([172])، وفي الحديث «إنما النساء شقائق الرجال»([173]).
الأصل السادس: (احترام كرامة الإنسان وحريته، وحقوقه الإنسانية الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والمهنية والعلمية؛ واجب شرعي).
فقد أكد الإسلام تكريم الله للإنسان، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ ([174])، ومن هنا قرر الإسلام حرية الأفراد، وحقوقهم الدينية والمدنية؛ بناء على تكريم الله للإنسان، ومن ذلك:
أولا: حرية الدين والاعتقاد والرأي:
فلا يحق للسلطة أن تلزم أحدًا بدين، أو برأي أو وجهة نظر، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([175])، بل للإنسان الحرية في أن يؤمن أو لا يؤمن، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾([176])، وقال ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين﴾([177])، وللإنسان الحرية في اتباع دينه الذين يدين به ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾([178])، إذ الغاية من خلقهم ابتلاؤهم، ولا يتحقق إلا بتركهم أحرارًا، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾([179]).
ثانيا: حرية التصرف والتنقل والعمل:
حرية الإنسان تقتضي ألاَّ قيد على تصرفاته، وليس للسلطة أن تمنع الإنسان من أي فعل إلا إذا كان محظورًا أو يفضي إلى الضرر بالمصلحة العامة أو بالآخرين، فحرية الإنسان تقتضي عدم وضع أي قيد على هذه الحرية، وعدم إكراه الإنسان بأي نوع من أنواع الإكراه؛ ولهذا قرر الإسلام مبدأ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([180])، والدين بمفهومه العام يعني الطاعة، ولهذا لا يَحق للسلطة أن تخضع الأفراد لطاعتها بالقوة والإكراه، وليس لها الحق في منعهم من أي فعل، مادام مباحًا شرعًا، ولا يضر بالإنسان والمجتمع، وكذلك للإنسان في ظل الشريعة الإسلامية التصرف في شئونه بلا قيد، ومن ذلك الحق في حرية التملك، والبيع، والتجارة، والتنقل، والعمل، وتقاضي الأجرة المناسبة للعمل؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم﴾([181])، وقوله ﷺ: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يَجِفَّ عرقه» ([182]).
كما لا يُنتَزَعُ مالُ أحد إلا بطيب نفس منه وبرضاه؛ لقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم﴾ ([183])، ولقوله ﷺ: «لا يَحِلُّ أخذ مال امرئ إلا بطيب نفس منه»([184]).
ثالثًا: الحرية الاقتصادية والتجارية:
فليس للسلطة أن تتدخل في حرية الأسواق، للإباحة المطلقة العامة لكل أشكال البيوع، وكل صور التجارة المشروعة، في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾([185])،وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾([186])،وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم﴾([187]).
ولا يحق للسلطة التدخل في الأسعار والتسعير إلا عند الضرورة، لما فيه من الظلم، وقد غَلَت الأسعار في المدينة، فطلب الناس من النبي ﷺ تحديد الأسعار فأبى ذلك، وقال لهم: «بل أدعو الله»، وقال: «إن الله هو المُسَعِّر القابضُ الباسطُ الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني مظلمة بدم ولا مال»([188]).
ونهى النبي ﷺ عن تَلَقِّي الركبان، حتى تصل البضاعة للسوق، وقال: «لا تَلقَوا الركبانَ، ولا يَبِعْ حَاضرٌ لِبَادٍ»([189])، وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض»([190]).
وقد سئل ابن عباس عن معنى حديث «لا يبع حاضر لباد»، فقال: «لا يكون له سمسارًا»([191])، أي لا يكون له وكيلًا في البيع، وهم اليوم الوكلاء التجاريون الذين يحتكرون البضائع، ويتحكمون في أسعارها، قبل أن تصل إلى السوق بالسعر الحقيقي لها، مما يؤدي إلى رفع الأسعار، وقد جاء في الحديث الصحيح «أن رسول الله ﷺ نهى عن تلقي السلع حتى تبلغ الأسواق»، وفي رواية «نهى عن تلقي البيوع»، وفي أخرى «عن تلقي الجلب»([192])، وقال أيضًا «لا يحتكر إلا خاطئ»([193]).
فكل ذلك يتعارض مع حرية السوق الذي قررته الشريعة الإسلامية، والتي دعت إلى السوق المفتوح كي يرزق الله الناس بعضهم من بعض، وتنشط أسواقهم، حتى لا يكون المال دُولة فقط بين الأغنياء منهم. بل يتداوله الجميع الغني والفقير، فالحرية الاقتصادية، وحرية السوق المفتوحة أصل من أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي بشرط أن لا يكون ربا ولا ظلم ولا احتكار ولا غش، فتم مراعاة الأغنياء والفقراء على حد سواء، وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب.
الأصل السابع: (المحافظة على الأرض والثروة الطبيعية وحمايتها، وتنميتها اقتصاديًّا، وتوزيع ريعها توزيعًا اجتماعيًّا عادلا؛ كل ذلك حقوق مشروعة للأمة، لا يسوغ مصادرتها أو الافتئات فيها على الأمّة، ولا التصرف فيها دون إذنها وقبل الرجوع إليها).
جاء الإسلام ليؤكد مفهوم المواطنة، وترسيخ حق الأمّة في الأرض التي تعيش عليها، وذلك بتقريره مبدأ: «لا حمى إلا لله ولرسوله"، وفي الصحيح «إن الأرض لله ورسوله والمؤمنين»، وقال عمر -مؤكدًا حق الأمّة بالأرض وثرواتها-: "والله إنها – أي: جزيرة العرب- لبلادهم، عليها قاتلوا عليها في الجاهلية، وعليها أسلموا في الإسلام، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا([194]).
فأثبت بهذه السياسة الراشدة أن الأرض والوطن في الدولة الجديدة، ليست للسلطة الحاكمة، ولا يحق لها أن تتصرف فيها بلا إذن أهلها وهم الأمّة، ولا أن تَحمِيَ شيئا منها، إلا للمصالح العامة فقط؛ وعلل ذلك بأن الأرض هي أرض العرب، وهم سكانها، عليها قاتلوا في الجاهلية، وعليها أسلموا.
وهذا الأصل - وهو حق الأمّة في الأرض التي تسكنها وتعيش عليها- لم يكن معروفًا في الدول قبل الإسلام، ولم تعرفه أمم الغرب ونظمها السياسية إلا في عصورها الحديثة، وفي النظم الديمقراطية، حيث كانت الدول والإمبراطوريات سابقًا تقرر للملوك وحدهم الحق في الأرض والشعب.
قال البيهقي: ". . . هذا الأثر يدل على أن غير النبي ﷺ ليس له أن يحمي لنفسه، وفيه وفيما قبله دلالة على أن قول النبي ﷺ «لا حِمَى إلا لله ورسوله»، أراد به أن لا حمى إلا على مثل ما حمى عليه رسوله في صلاح المسلمين"([195]).
وقد حمى عمر الأحماءَ لإبل الصدقة التي يحمل عليها المجاهدين في سبيل الله، وهي مصلحة عامة، وأذن للضعفاء في دخول الحمى لرعي ماشيتهم، قال الإمام الشافعي:
"لما قال رسول الله ﷺ: «لا حمى إلا لله ورسوله» لم يكن لأحد أن ينزل بلدًا غير معمور، فيمنع منه شيئًا يرعاه دون غيره، وذلك أن البلاد لله U، لا مالك لها من الآدميين، وإنما سَلَّطَ الله الآدميين على منع مالهم خاصة، لا منع ما ليس لأحد بعينه، وقول رسول الله ﷺ: «لا حمى إلا لله ورسوله» أي لا حمى إلا حمى رسول الله ﷺ في صلاح المسلمين الذين هم شركاء في بلاد الله، ليس أنه حمى لنفسه دونهم، ولولاة الأمر بعد رسول الله ﷺ أن يحموا من الأرض شيئًا لمن يحتاج إلى الحمى من المسلمين، وليس لهم أن يحموا شيئًا لأنفسهم دون غيرهم، وقول عمر: (إنهم ليَرَون أني قد ظلمتهم)، يقول: يذهب رأيهم أني حميت بلادًا غير معمورة لنِعَمِ الصدقة ولنِعِمَ ِالفيء، وأمرت بإدخال أهل الحاجة الحمى دون أهل القوة على الرعي في غير الحمى، إلا أني قد ظلمتهم!.
ولم يظلم عمر t، وإن رأوا ذلك. بل حمى على معنى ما حمى عليه رسول الله ﷺ لأهل الحاجة دون أهل الغنى، وجعل الحمى حَوزًا لهم خالصًا، كما يكون ما عمر الرجل له خالصًا دون غيره، وقد كان مباحًا قبل عمارته، فكذلك الحمى لمن حمى له من أهل الحاجة، وقد كان مباحًا قبل أن يحمى، وبيان ذلك في قول عمر بن الخطاب t: (لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرًا)، أي أنه لم يَحمِ إلا لما يحمل عليه لمن يحتاج إلى الحمى من المسلمين أن يحموا، ورأى إدخال الضعيف حقًّا له دون القوي، فكل ما لم يعمر من الأرض فلا يحال بينه وبين المسلمين أن ينزلوا ويَرعَوا فيه حيث شاءوا، إلا ما حمى الوالي لمصلحة عوام المسلمين، فجعله لما يحمل عليه في سبيل الله من نعم الجزية، وما يفضل من نعم الصدقة، فيُعِدَّه لمن يحتاج إليه من أهلها، وما يصير إليه من ضوال المسلمين وماشية أهل الضعف دون أهل القوة، وكل هذا عام المنفعة بوجوه، لأن من حمل في سبيل الله فذلك لجماعة المسلمين، ومن أرصد له أن يعطى من ماشية الصدقة؛ فذلك لجماعة ضعفاء المسلمين، وكذلك من ضعف من المسلمين فرعيت له ماشيته فذلك لجماعة ضعفاء المسلمين، وأمر عمر t أن لا يدخل نِعَم ابن عفان وابن عوف لقوتهما في أموالهما، وإنهما لو هلكت ماشيتهما لم يكونا ممن يصير كلا على المسلمين، فكذلك يصنع بمن له غنى غير الماشية"([196]).
وقد نص الإمام الشافعي على قاعدة صلاحيات السلطة، وحررها أصحاب القواعد بقولهم "تصرف الإمام على الأمّة منوط بالمصلحة"([197]).
ومن فروع هذه القاعدة عند الفقهاء:
1. أنه إذا قَسَّم الزكاة على الأصناف يَحرم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات.
2. ومنها: إذا أراد إسقاط بعض الجند من الديوان بغير سبب لا يجوز.
3. ومنها: ما ذكره الماوردي: أنه لا يجوز لأحد من ولاة الأمور أن ينصب إمامًا للصلوات فاسقًا، وإن صححنا الصلاة خلفه؛ لأنها مكروهة، وولي الأمر مأمور بمراعاة المصلحة ولا مصلحة في حمل الناس على فعل المكروه.
4. ومنها: أنه لا يجوز له أن يقدم في مال بيت المال غير الأحوج على الأحوج؛ لحديث: «إنما أنا قاسم والله المعطي»، ووجه الدلالة: أن التمليك والإعطاء إنما هو من الله تعالى لا من الإمام، فليس للإمام أن يملّك أحدًا إلا من مَلَّكه الله، وإنما وظيفة الإمام القِسمة، والقسمة لابد أن تكون بالعدل.
ومن العدل: تقديم الأحوج والتسوية بين متساوي الحاجات، فإذا قسم بينهما ودفعه إليهما، علمنا أن الله ملكهما قبل الدفع، وأن القسمة إنما هي معينة لما كان مبهما، كما هو بين الشريكين، فإذا لم يكن إمام وبدر أحدهما واستأثر به، كان كما لو استأثر بعض الشركاء بالماء المشترك ليس له ذلك([198]).
وهذه القاعدة وفروعها جاءت تعبيرًا عن أصل عقائدي، وهو أن الملك لله، والمال ماله، والأمر أمره، فليس للإمام أن يتصرف في شيء من ذلك إلا وفق ما أمر به الله من العدل والقسط والمصلحة.
6. ويحرم على الإمام، وغيره من الولاة، أن يأخذ من أصحاب المواشي عوضًا عن الرعي في الحمى -أي المكان المخصص لرعي إبل الصدقة- أو الموات بلا خلاف، وكذا يحرم عليه أن يحمي الماء العَدّ (أي العذب) لشرب خيل الجهاد وإبل الصدقة والجزية وغيرهما، ولا يحمي الإمام لنفسه قطعًا؛ لأن ذلك من خصائصه ﷺ ولم يقع ذلك منه.
وخرج بالإمام ونائبه غيرهما؛ فليس له أن يحمي، وليس للإمام أن يدخل مواشيه ما حماه للمسلمين؛ لأنه من الأقوياء، ويندب له ولنائبه أن ينصب أمينًا -على الحمى- يدخل فيه دواب الضعفاء، ويمنع منه إدخال دواب الأقوياء فإن رعاه قوي منع منه([199]).
فقد شرع الحمى للمصالح العامة، وأنه لا يمنع من الاستفادة منه الضعفاء الذين لا يقدرون على الانتجاع وطلب الكلأ، ويمنع منه الإمام والأغنياء، وقد تحول الأمر اليوم فإذا الحمى يخصص للملوك والرؤساء والملأ، دون الضعفاء من أصحاب الماشية!.
والمقصود أن تصرفات السلطة على الأمّة كلها منوطة بتحقيق المصالح، وجلب الأصلح من المصلحتين، ودفع المفاسد، ودرء الأسوأ من المفسدتين، ولا ينفذ من تصرفات السلطة ورجالها من رئيس الدولة إلى أدنى عمالها وموظفيها إلا ما كان كذلك.
وقد فَصَّل القرافي المالكي في كتابه (الفروق) في بيان أنواع تصرفات الإمام، وما ينفذ منها، وما لا ينفذ فقال:
"القسم الأول: ما تتناوله الولاية بالأصالة:
اعلم أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى ولاية وصية، لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة، أو دفع مفسدة، لقوله تعالى ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([200])، ولقوله ﷺ: «من وَلِيَ من أمور أمتي شيئا ثم لم يجتهد لهم، ولم ينصح، فالجنة عليه حرام»، فيكون الأئمة والولاة مَعزُولِين عما ليس فيه بذل الجهد، والمرجوح ليس بالأحسن. بل الأحسن ضده، وليس الأخذ به بذلا للاجتهاد. بل الأخذ بضده، فقد حجر الله على الأوصياء التَّصَرُّفَ فيما ليس بأحسن، مع قلة الفائت من المصلحة في ولايتهم لِخِسَّتها بالنسبة إلى الولاة والقضاة، فأولى أن يحجر على الولاة والقضاة في ذلك، ومقتضى هذه النصوص أن يكون الجميع معزولين عن المفسدة الراجحة، والمصلحة المرجوحة، والمساوية، وما لا مفسدة فيه ولا مصلحة؛ لأن هذه الأقسام الأربعة ليست من باب ما هو أحسن، وتكون الولاية إنما تتناول جلب المصلحة الخالصة أو الراجحة، ودرء المفسدة الخالصة أو الراجحة، فأربعة معتبرة، وأربعة ساقطة. ولهذا قال الشافعي: لا يبيع الوصي صاعًا بصاع؛ لأنه لا فائدة في ذلك، ولا يفعل الخليفة ذلك في أموال المسلمين، ويجب عليه عزل الحاكم إذا ارتاب فيه، دفعًا لمفسدة الريبة على المسلمين، ويعزل المرجوح عند وجود الراجح؛ تحصيلا لمزيد المصلحة للمسلمين، واختلف في عزل أحد المتساويين. . . " انتهى كلامه([201]).
فإذا تقرر ثبوت هذه القاعدة، وأنه ليس للسلطة أن تتصرف، ولا ينفذ من تصرفاتها إلا ما كان الأصلح والأحسن والأرجح، إذا كان ذلك في مقدورها قياسًا على الولاية على اليتيم، فيترتب على ذلك أحكام منها:
أولًا: كل تصرف يصدر من السلطة في مال الأمّة، أو في شئونها التي تترتب عليها التزامات مالية على الأمّة دون شوراها وإذنها، فالتصرف باطل والإمام ضامن، كما يضمن ولي اليتيم إذا تصرف في المال في غير صالح اليتيم، فإن كان عن خيانة للأمانة فذلك موجب لعزله، ولا تَبرَأُ ذمته إلا بِرَدِّه، وإن أدى ذلك إلى مقاضاته وحبسه، وكذا إذا ادَّعت السلطة نفاد المال، وكانت دعواها على خلاف الظاهر، لم يقبل منها ذلك، وكذلك يضمن الإمام من ماله الخاص إذا فرط أو أهمل في استصلاح مال الأمّة، حتى ذهب بسبب تفريطه، ويجب تسجيل كل ما تحت يديه من أموال، ومعرفة مقدار ما في بيت المال، ومقدار ما يصرف منه، منذ تولي الإمام إلى اعتزاله، وكذا الحكم مع من دون الإمام فيمن له حق التصرف في مال الأمّة العام، كما هو الحال مع ولي اليتيم، والحكم في ذلك كله للسلطة القضائية في تقدير التفريط والتعويض والعقوبة([202]).
ثانيًا: وأنه ليس للسلطة أخذ مال أحد منه ومنحه لغيره، ولا مصادرة مال أحد بغير حق، ولا تنفذ تصرفاتها هذه شرعًا، ويجب إبطالها بعد عزلها ورد الحقوق إلى أهلها، كما قال أبو يوسف القاضي لهارون الرشيد: "إن أخذ الوالي من يد أحد أرضا، وأقطعها لآخر، فهذا بمنزلة الغاصب، فلا يحل للإمام ولا يسعه أن يقطع -أي يعطي- أحدا من الناس حق مسلم ولا معاهد، ولا يخرج من يده شيئا من ذلك، إلا بحق يجب له عليه، فيأخذه بذلك الذي وجب له"([203]).
وقال أيضًا: "ليس للإمام أن يخرج شيئا من يد أحد إلا بحق ثابت معروف".
ثالثًا: كما لا يحق للسلطة التصرف في مصالح الأمّة العامة إلا بما يحقق المصلحة لهم جميعًا، كما قال أبو يوسف قاضي القضاة: "لا ينبغي لأحد أن يحدث شيئًا في طريق المسلمين مما يضرهم، ولا يجوز للإمام أن يقطع شيئًا من طريق المسلمين مما فيه ضرر عليهم، ولا يسعه ذلك، وإن أراد الإمام أن يقطع طريقًا من طرق المسلمين الجادة رجلا يبني عليه، وللعامة طريق غير ذلك بعيد أو قريب منه، لم يسعه إقطاع ذلك، ولا يحل له، وهو آثم إن فعل ذلك"([204]).
فليس للسلطة أن تمنح أحدًا شيئًا من الأرض على حساب المصلحة العامة؛ وكذلك ليس للسلطة مراعاة المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة، فلا تراعي مصالح فئة خاصة من فئات المجتمع إذا كان يضر بالعامة، كشق الأنهار وحفر الآبار أو طمرها([205]).
قال الإمام الشافعي في باب (عمارة ما ليس معمورًا من الأرض التي لا مالك لها) في بيان ما للسلطة من صلاحية في الإقطاع، وما ليس لها، وما يرد من تصرفاتها في ذلك:
"كأن يقال: الحرم دار قريش، ويثرب دار الأوس والخزرج، وأرض كذا دار بني فلان على معنى: أنهم ألزم الناس لها، وأن من نزلها غيرهم إنما ينزلها شبيها بالمجتاز، وعلى معنى: أن لهم مياهها التي لا تصلح مساكنها إلا بها، وليس ما سمته العرب من هذا دارًا لبني فلان بالموجب لهم أن يكون ملكًا مثل ما بنوه أو زرعوه؛ لأنه موات أحيي، كماء نزلوه مجتازين وفارقوه، وكما يحيي ما قارب ما عَمَرُوا، وإنما يملكون بما أَحيَوا ما أحيوا، ولا يملكون ما لم يُحيُوا.
قال الشافعي: وبيان ما وصفت في السنة ثم الأثر منه ما وصفت قبل هذا الباب من قول النبي ﷺ: «لا حمى إلا لله ورسوله»، ثم قول عمر t: "إنها لبلادهم ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله تعالى ما حميت عليهم من بلادهم شبرا"؛ أي أنها تنسب إليهم إذا كانوا ألزم الناس لها وأمنعه، عن النبي ﷺ قال: «من أحيا مواتًا فهو له وليس لعرق ظالم فيه حق»، قال الشافعي: وجِمَاع العرق الظالم كل ما حفر أو غرس أو بنى ظلمًا في حق امرئ بغير خروجه منه.
عن طاوس أن رسول الله ﷺ قال: «من أحيا مواتًا من الأرض فهو له، وعادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني».
قال الشافعي: ففي هذين الحديثين وغيرهما الدلالة على أن الموات ليس ملكًا لأحد بعينه، وأن من أحيا مواتًا من المسلمين فهو له، وأن الإحياء ليس هو بالنزول فيه وما أشبهه، وأن الإحياء الذي يعرفه الناس هو العمارة بالحجر والمدر والحفر لما بنى دون اضطراب الأبنية وما أشبه ذلك، ومن الدليل على ما وصفت أيضا "أن رسول الله ﷺ لما قدم المدينة أقطع الناس الدور فقال: حي من بني زهرة، يقال لهم: بنو عبد بن زهرة لرسول الله ﷺ: نكب عنا ابن أم عبد! فقال رسول الله ﷺ: «فلم ابتعثني الله إذا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه».
فلغير المسلم من مواطني الدولة الإسلامية حق إحياء الأرض وتملكها بالإحياء؛ لأنه من أهل دار الإسلام يحق له فيها ما يحق للمسلمين، قال ابن قدامة الحنبلي: "ولا فرق بين المسلم والذمي في الإحياء، نص عليه أحمد وبه قال مالك وأبو حنيفة، ولنا عموم قول النبي ﷺ «من أحيا أرضا ميتة فهي له»؛ ولأن هذه جهة من جهات التمليك فاشترك فيها المسلم والذمي كسائر جهاته، ولقوله: «عادي الأرض لله ولرسوله ثم هو لكم بعد ومن أحيا مواتًا من الأرض فله رقبتها»، ولا يمتنع أن يريد بقوله: «هي لكم»؛ أي لأهل دار الإسلام، والذمي من أهل الدار، تجري عليه أحكامها، وقولهم: "إنها من حقوق الإسلام"، قلنا: وهو من أهل الدار، فيتملكها كما يملكها بالشراء، ويملك مباحاتها من الحشيش والحطب والصيود والركاز والمعدن واللقطة، وهي من مرافق دار الإسلام"([206]).
فقد تقرر له بحق المواطنة، وكونه من أهل دار الإسلام كافة الحقوق العامة في هذا الباب، لا فرق في ذلك بين كونه مواطنًا مسلمًا أو مواطنًا ذميًّا.
الأصل الثامن: (الحفاظ على هوية الأمّة الإسلامية، وقيمها وثقافتها ولغتها؛ من الواجبات الشرعية وأصول الحكم).
تعريف الهوية هي الخصائص والصفات الذاتية والعرضية التي يمتاز بها مجتمع ما عن غيره من المجتمعات، والتي تعد تلك الخصائص عناصر التماثل الموحدة لغالبية أفراده، والقاسم المشترك بين أكثر فئاته، على تعدد واختلاف مكوناته كالعرق والوطن واللغة والدين والقيم والمفاهيم والتاريخ المشترك.
فالهوية العربية مثلا هي أقوى عوامل وحدة العرب كقومية وشعب واحد، من خلال عناصر التماثل التي توحده وتربط بين كل أفراده وقبائله، وفئاته؛ كالجنس، واللغة، والوطن، والتاريخ، والقيم المشتركة.
وكذا الهوية الإسلامية هي الرابط المشترك التي جعلت من المسلمين أمة واحدة على اختلاف قومياتهم وأعراقهم طوال ثلاثة عشر قرنًا، قال تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾([207]) وقال: ﴿وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾([208])، وقال: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾([209])، وقال: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾([210])، وقال: ﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾([211]).
وقد رعى الإسلام هذا الموضوع حق رعايته - أي موضوع الهوية - فأكد أن الإنسانية كلها من أصل واحد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم﴾([212])، وأكد تكريم الله للإنسان، فقال أيضا: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ ([213])، ودعاه إلى عبادة الله وحده، فقال: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾([214]). . . . إلى آخر ما ورد من الآيات المحكمات.
فتأكيد وحدة النوع الإنساني، وتأكيد تكريمه وتفضيله، وبيان بدايته ونهايته، والغاية من خلقه، كل ذلك صياغة لهوية الإنسان المستخلف في الأرض، فالهوية الإنسانية هي الرابط الذي يجمع بني آدم كلهم، على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأديانهم، فهم من أصل واحد، ومن أب واحد وأم واحدة، وكما في الحديث «كلكم من آدم، وآدم من تراب»([215]).
وهذه الهوية تقتضي أن يكون الجميع سواء، ما داموا في الأصل سواء، كما جاء في الحديث «الناس سواسية كأسنان المشط»، وجاء: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى»([216]).
ولهذا لم يَهدِم الإسلام قِيَم العرب وتاريخَهم وعاداتهم وآدابهم التي كانوا عليها في الجاهلية. بل جاء في الحديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ([217])، كما قال في شعائرهم الدينية الصحيحة: «كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم»( [218]).
وقد كان الصحابة ينشدون أشعار الجاهلية، ويذكرون أيامهم بحضرة النبي ﷺ، فكان يستمع لهم ويتبسم.
كما لم يتعرض الإسلام للغات ولا للقوميات ولا للآداب والعادات التي كانت عليها الشعوب الأخرى، بل عالج الخلل العقائدي، وأبطل فقط ما كانوا عليه من انحراف عقائدي وأخلاقي، ذلك الانحراف الذي جعل بعضهم يظلم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا، بسبب الاختلاف العرقي، أو الديني، فأعادهم الإسلام إلى الأصل الذي كان عليه أبوهم آدم ونوح وإبراهيم، وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو التوحيد والإسلام ﴿إِنَّالدِّينَ عِنْدَ اللَّـهِ الْإِسْلَام﴾([219])، وقال: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾([220])، ودعاهم إلى التآلف والتعارف ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾([221])، وأكد أصل الحرية والتعددية الدينية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([222]). . . إلخ.
ولا شك أن في عدم تعرض الإسلام لتلك القيم والعادات والآداب واللغات والقوميات محافظة منه على عناصر الهوية لتلك المجتمعات الإنسانية؛ لما للهوية من أهمية وخطورة على الفرد والمجتمع.
خطورة الهوية: وتكمن خطورة الهوية في كونها عاملا رئيسًا في تحقيق الشعور بالذات للفرد والجماعة، ومن ثم الهدوء والاستقرار النفسي والاجتماعي؛ ليستطيع الإنسان في ظلها ممارسة حقوقه وحياته الطبيعية في مجتمعه، في ضوء ما تحدده له تلك الهوية؛ فالشعوب التي تفقد هويتها كالإنسان الذي يفقد ذاكرته، فتفقد تلك الشعوب القدرة على التمييز، بل القدرة على معرفة ما تريد وما لا تريد، لتصبح أكثر قابلية للاحتلال الأجنبي، ليُصَرِّفَ غيرُها إدارةَ شئونها، كالقاصر مع الوصي!.
صياغة الهوية: إن صياغة هوية أي أمة ومجتمع تتم من خلال عدة قنوات أهمها:
طرق التنشئة والتعليم والتربية التي تقوم بوظيفة نقل ما هو عَرَضِي من تلك الخصائص كاللغة والدين والتاريخ والقيم والمفاهيم والعادات من جيل إلى جيل، حيث يتم بعملية التنشئة ترسيخ الشعور بالهوية، وصياغتها بشكل دائم، ليستطيع المجتمع والفرد من خلالها رؤية ذاته ورؤية غيره والأشياء من حوله، والتعامل معها وفق قِيَمِه وتصوراته.
ومن هنا فإن من مسئولية الدولة في الإسلام المحافظة على الهوية الإسلامية الجامعة للأمة كلها، وعلى اللغة العربية لغة القرآن ووعاء الإسلام، وعلى آدابها وقيمها.
الأصل التاسع: (حماية الأمّة وصيانة استقلالها والجهاد لإعلاء كلمة الله؛ من أهم واجبات السلطة).
وهو من أهم أصول الخطاب السياسي الإسلامي القرآني والنبوي والراشدي، بل هو من أوجب الواجبات الشرعية على السلطة؛ كما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾([223])، وكما جاء في خطبة أبي بكر بعد البيعة وفيها "وما ترك قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل".
وقد أجمع الصحابة y على وجوب الجهاد، وخاصة دفع العدو المحتل، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن جهاد الدفع: "أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا، فالعدو الذي يفسد الدنيا والدين لا شيء أوجب بعد الإيمان بالله من دفعه، ولا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان([224]).
الأصل العاشر: (الوفاء بالعهود والتعاون مع شعوب العالم؛ واجب مشروط بما يحقق العدل والخير والأمن والاستقرار).
وهذا أصل من أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، كما قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾([225])، وقال: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾([226])، وكما قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾([227]).
وفي الحديث: «لا تدعوني قريش إلى خطة تصل بها الرحم إلا أجبتهم إليها»، فالتعاون مع كل أمم الأرض على إقامة العدل، ودفع الظلم، وتحقيق الأمن، وتبادل المصالح المشتركة فيما بينها، كل ذلك مشروع في حق الأمّة والدولة في الإسلام.
([14]) مصنف عبد الرزاق 10/302 بإسناد صحيح، وقد قال القرطبي: "وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة وهي أعظم النوازل شورى". 4/251.
([18]) طبقات ابن سعد 3/262 بإسناد صحيح على شرط الشيخين، قال الحافظ في الفتح 7/68: "أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح" من حديث ابن عمر.
([19]) المصنف 7/431، وابن شبة 3/933 مختصرًا بإسناد صحيح "لا بيعة إلا عن مشورة"، وفي 3/936 بإسناد صحيح: "من دعا إلى إمارة لنفسه من غير مشورة المسلمين فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه".
([27]) انظر ابن كثير 7/245، وابن جرير الطبري 3/10، 11، ولفظه "أمرتك ألاّ تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر".
([48]) رواه أبو داود في سننه، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث، حديث رقم: (2872)، وكذا أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الوصايا، باب: إبطال الوصية للوارث، حديث رقم: (3656)، وكذا الترمذي (2266)، وابن ماجه (2817)، وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد.
([51]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الفضائل، باب: وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا، حديث رقم: (6277).
([54]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الوصايا، باب: إنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى، حديث رقم (2766)، ومسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، حديث رقم (272).
([66]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى، حديث رقم: (1741)، ومسلم في صحيحه، كتاب: الحج، باب: حجة النبي، حديث رقم: (3009).
([71]) رواه أبو داود 5/154، ح 4806، وأحمد 4/24 و25. وقال في الفتح 5/179: رجاله ثقات وصححه غير واحد. قال الخطابي كما في حاشية أبي داود: (السيد الله: يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل).
([76]) رواه أحمد 1/2و5 و7، وأبو داود ح رقم (4338)، والترمذي (2168) وقال: (حسن صحيح) و (3057)، وابن ماجه ح رقم (4005)، وصححه ابن حبان رقم (304) كلهم من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
([77]) رواه أحمد 5/251 و256، و3/19 و61، و4/315، وأبو داود، ح رقم (4344)، والترمذي ح رقم (2175)، وابن ماجه ح رقم (4011)، والنسائي (2/187) من طرق عن جماعة من الصحابةـ وصححه الألباني في الصحيحة رقم (491).
([80]) رواه أبو داود ح رقم (4336) و (4337)، والترمذي ح رقم (3050)، وابن ماجه ح رقم (4006)، وأحمد 1/391، من حديث ابن مسعود وحسنه الترمذي، وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/269): (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).
([90]) رواه أبو داود ح رقم (4363)، والنسائي 7/109 – 111 بإسناد صحيح، وقال أبو داود قال أحمد بن حنبل في معنى الحديث: (أي لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلاً إلا بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله ﷺ: (كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس، وكان للنبي ﷺأن يقتل).
([93]) ابن جرير 2/648، والبداية والنهاية 7/178 وقد كان معهم ممن هو مذكور في عداد الصحابة: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وهو مما بايع تحت الشجرة، كما في الإصابة 2/411، وعمرو ابـن الحمق الخزاعي، كما في الإصابة 2/533، وعدي بن حاتم الطائي، كما في ثقات ابن حبان 2/260، وجندب بن زهير الغامدي، كما في الإصابة 1/248، وجندب بن كعب الأزدي، كما في الإصابة 1/250، وعروة بن الجعد البارقي، كما في الإصابة 2/476، وانظر ابن جرير الطبري 2/639 و2/652.
([97]) مصنف ابن أبي شيبة 7/562 بإسناد صحيح من طريق سلمة بن كهيل عن كثير بن نمر أنه سمع عليا وهو يخطب، وهو إسناد على شرط البخاري، إلا كثير هذا فقد ذكره ابن حبان في ثقاته، ورواه ابن جرير في التاريخ 3/114 من طريق كثير، وفي 3/115 بإسناد صحيح من طريق ليث ابن أبي سليم عن أصحابه عن علي.
([98]) رواه أحمد في المسند (1/86 – 87) وأبو يعلى الموصلي (1/367 ح 474) والحاكم في المستدرك (2/153) وقال: (صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) وقال ابن كثير في البداية والنهاية (7/292): (إسناده صحيح) وهو كما قال، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/235 – 237): (رجاله ثقات). وقد أنكرت عائشة قتل علي لهم حتى أخبروها بالقصة كما أنكرت على عثمان عندما بلغها خبر كاذب أنه قتل الوفد الذين جاؤوا معترضين على سياسته وكذلك أنكرت على معاوية قتله عدي بن حجر. (انظر البداية والنهاية 8/57).
([114]) وحرية الاعتقاد لا تعني حق المسلم بالإعلان عن ردته؛ إذ هذا الإعلان طعن صريح في الدين الإسلامي، واعتداء على عقيدة الأمة، فإذا أسر بالكفر فليس للسلطة عليه سبيل كما كان حال المنافقين في المدينة.
[120] البقرة:233.
([126]) رواه أحمد 1/187 و189 و190، وأبو داود، ح رقم (4772)، والترمذي، ح رقم (1421)، والنسائي 7/116، وابن ماجه، ح رقم (2580) بإسناد صحيح.
[134] النساء:59.
([136]) رواه ابن إسحاق في السيرة 1/155، ومن طريقه ابن جرير في تهذيب الآثار مسند عبد الرحمن بن عوف ص21 – 22، وإسناده صحيح.
([137]) الحديث رواه البيهقي 6/367 بإسناد صحيح مرسلا، وهو صحيح بشواهده، وانظر البداية والنهاية 2/270 – 271.
([142]) وهذه قاعدة عظيمة من الإمام الأوزاعي في بيان أن حرمة دم الإنسان تقتضي حرمة ماله وعرضه، وأن له من الحقوق ما لغيره من المسلمين في الدولة الإسلامية من حيث الجملة.
[179] الملك:3.
[200] الأنعام:152.
([202]) انظر تفصيل القول في ما يلزم الولي وما يضمنه في مال اليتيم في تبصرة الحكام للقاضي محمد بن فرحون 2 /223 – 125، تحقيق طه سعد، ط1، 1986م، القاهرة.
[207] يونس:72.
[208] يونس:90.
[209] الحج:78.
[210] الزمر:12.
[211] فصلت:33.
الرسالة الخامسة (المبادئ المهمة لمؤتمر الأمة)