(التيار الإسلامي وأزمة المشروع السياسي)
- بواسطة مؤتمر الأمة --
- الإثنين 26 ربيع الثاني 1433 00:00 --
- 0 تعليقات
(التيار الإسلامي وأزمة المشروع السياسي)
بقلم د. حاكم المطيري
19 مارس 2012
كشفت الثورة العربية المعاصرة أزمة التيار الإسلامي بكل فصائله، فقد فاجأت الثورة الجميع، وأثبتت الأمة وشعوبها قدرتها على تغيير واقعها بنفسها، حين عجز الإسلاميون عن صناعة الثورة وقيادة الأمة، وقد كان لذلك كله أسبابه الموضوعية التي تعود للخلل في تصور التيار الإسلامي التقليدي -بجماعاته ومجموعاته– لطبيعة التغيير المنشود، وكيف يصنع التغيير، والموقف من الأنظمة، وكيف يتم إصلاح الواقع السياسي الخ
وهي تصورات بعيدة كل البعد عن السنن الاجتماعية السياسية المطردة التي جرت وتجري في كل مجتمع إنساني، كما أنها لا تتسق وأحكام الإسلام التي جاءت لمعالجة الواقع وإشكالاته!
فكانت أحكام التيار الإسلامي وتصديقاته التي أثبتت التجربة التاريخية عدم صحتها، هي نتيجة خلل في التصورات نفسها!
وإذا كان التيار الإسلامي يتمتع بحرارة الإيمان والقدرة على التضحية إلى أقصى مدى، فإنه قد فاته إحسان العمل لتحقيق أهدافه، فالإخلاص والفداء وحده لا يثمر النجاح، مهما كان ثواب صاحبه في الآخرة، وإنما الذي يحقق النتائج هو إحسان العمل!
وقد كان بيني وبين كبار قيادات بعض هذه الجماعات مناقشات قبيل الثورة، تكشف جانبا من جوانب تلك الأزمة الفكرية لدى تلك الجماعات، والتي انعكست على أدائها السياسي، وعجزها عن المشاركة في التغيير فضلا عن صناعته، وهذه بعض تلك الرسائل، وكانت قبيل بداية الثورة التونسية بنحو أسبوع، وهي رسالة نقد لكتابي (أهل السنة والجماعة والأزمة السياسية)، وهذا جوابي عليها، وفيه أهم ما ورد من نقد، والإجابة عنه، والتأكيد على حق الأمة في الثورة، وعلى مشروعية التغيير السلمي والثورة الشعبية:
رسالة (عتاب وجواب)
التاريخ 10 /12 /2010م
من د. حاكم المطيري المنسق العام لمؤتمر الأمة..
إلى جناب المكرم الشيخ الفاضل عطا خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير..
حفظه الله ورعاه، وسدد خطاه، ونصرنا الله وإياه، آمين آمين..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته تحية طيبة مباركة وبعد:
فقد وصلت رسالتك الكريمة وملاحظاتك على كتاب (أهل السنة والجماعة والأزمة السياسية)، وقد قمت بواجب النصح والنصيحة لأخيك، كما تقتضيه أخوة الإيمان، فأكرمك الله وآجرك، ونصيحتك مقبولة وعلى العين والرأس، وأما العتاب فلك العتبى حتى ترضى، وليس لك عندي إلا المحبة والأخوة مبذولة لك، مهما اختلفنا في الرأي!
أخي الكريم قرأت رسالتك وتأملتها تأمل مسترشد مستنصح، وفرحت بما فيها من موافقة على أكثر ما جاء في الكتاب، وإن كان الكتاب لا يمكن فهمه على وجهه إلا بعد قراءة كتابي (الحرية أو الطوفان) وكتابي (تحرير الإنسان)، إذ هما قبل كتاب (أهل السنة)، الذي جاء كرد على الشبه التي تثار باسم السنة والسلفية على ما ورد فيهما، وقد خاطبت بهذا الكتاب طائفة كبيرة من المسلمين بالخطاب الذي يفهمونه، واستشهدت بعبارات الأئمة الذين يقلدونهم، ولا يخفى أن أكثر أهل السنة هم أتباع المذاهب الأربعة المشهورة، ومعلوم مدى إجلالهم للأئمة وعلماء الأمة، فلم أستند في إثبات وجوب الخلافة على أقوال الفقهاء، ولا أحتاج إلى الاستنباط من الكتاب والسنة لإثبات وجوبها وضرورتها، إذ تواتر وتوافر لها من نصوص الكتاب والسنة القطعية، وإجماع الصحابة القطعي، ما لا يحتاج معه من جاء بعدهم إلى الاستنباط الفقهي، الذي مورده كما لا يخفى على فضيلتكم المسائل الظنية.
فضيلة الشيخ الكريم:
إن موضوع الخلافة ليس موضوعا خاصا بفئة أو جماعة، بل هو فرض من فروض الدين، وأمر يخص كل المسلمين، ومنذ سقوط الخلافة - أعادها الله - والأمة تموج موج البحر للخروج من هذه الفتنة العامة، وقامت لذلك جماعات كبرى في مصر (الإخوان المسلمون)، وفي الهند (الجماعة الإسلامية)، وحتى جماعة التبليغ وإن كانت جماعة دعوية صرفة إلا أنها تهدف إلى عودة الإسلام وظهوره، فهدف كل هذه الجماعات وغيرها بعث الأمة من جديد، وإعادة الخلافة، وجاء على إثر هذه الجماعات المباركة التي ربطت الأمة بدينها وهويتها وعقيدتها، جماعات أخرى ما زالت تتوالى، كـ (الجماعة الإسلامية) في مصر، و(العدل والإحسان) في المغرب، و(الجهاد الإسلامي) في مصر، وكان ممن أبلوا بلاء حسنا في هذا الباب (حزب التحرير)، فقد حافظ الحزب على قضية عودة الخلافة لتظل جذوتها مشتعلة..
وقد قدم الجميع تضحيات كبرى من أجل إقامة الدولة الإسلامية، وعودة الخلافة التي يطمح إليها الجميع، إلا أن كل هذه الجماعات ومنذ أكثر من ثمانين سنة، لم تستطع أن تحقق الهدف النهائي، ولا المرحلي، في الوقت الذي استطاعت الحركة الشيوعية التي قامت في الفترة ذاتها تقريبا، أن تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه، لتقيم دولا، وتسقط دولا، حتى سيطرت على نصف العالم تقريبا، في مدة خمسين سنة أو أقل!
إن عجز الحركة الإسلامية على اختلاف ألوان طيفها من تحقيق أهدافها بإقامة دولة الإسلام والخلافة، مع أن تضحياتها أضعاف أضعاف تضحيات الحركات الأخرى، حتى أنها لم تستطع أن تحقق ما حققته الثورة الإيرانية، التي أقامت دولة دينية تقوم على نظرية ولاية الفقيه التي لم يعرفها التاريخ الإسلامي، كل ذلك يؤكد بأن هناك خلالا في الأداء، أو خللا في التصورات، وهو ما يوجب علينا جميعا أن نراجع أنفسنا، إذ للتغيير سنن اجتماعية وسياسية لا تحابي أحدا، ولا تتخلف أبدا {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
لقد أصبح المسلمون والمصلحون وحركاتهم أسرى أوهام فكرية وثقافية حالت بينهم وبين التغيير، بينما شعوب العالم كله تتغير من حولنا، وثبت أننا وإن لم ينقصنا الإخلاص والصدق والبذل والتضحية، فقد فاتنا الأخذ بالأسباب التي هي مناط التغيير، ومن ذلك القوة بكل أشكالها مادية وسياسية واجتماعية، والقدرة على توظيفها مكانا وزمانا لتحقيق التغيير المنشود!
أيها الشيخ الفاضل:
إن لي على ما جاء في رسالتك بعض الملحوظات، فأرجو أن يتسع لها صدرك ولا حرج عليك إن بقيت على رأيك، فالخلاف بين أهل الإيمان لا يفسد للود قضية:
أولا: جاء في رسالتك الكريمة: (إن قارئ الأبواب التسعة الأولى من كتابك يراك مهتماً بالخلافة ووجوب إقامتها لتحِلّ محلّ الحكام الطواغيت في بلاد المسلمين حيث تجب إزالتهم، وأن تنصّبَ الأمة خليفة واحداً يجمعها في دولة واحدة، يحكمها بما أنزل الله... وأنه لا يصحّ أن يكون للأمة خليفتان... وغير هذا من الحق كثير تذكره عن الخلافة في الأبواب التسعة الأولى، لكنك في الباب العاشر عند عرض مشروعك لإقامة الخلافة، ودعوتك لمؤتمر يقر هذا المشروع، فأنت تكاد تضرب بكل ما ذكرته في الأبواب التسعة عرض الحائط! ففي المشروع لا تتقيد بالأدلة الشرعية التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطريقة إقامة الخلافة، بل تضع تصورات تراها بتقديرك طريقةً لإقامة الخلافة).
وقلت أيضا: (وواضح من هذه الأقوال المقتبسة من الباب العاشر أنها تخالف الطريقة التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الدولة الإسلامية(الخلافة)، بل إن بعض الأقوال تخالف ما ذكرته أنت في الأبواب السابقة، وإليك تفصيل البيان:
1- إن أحكام الشرع كما وردت فكرتها في الإسلام وردت كذلك طريقتها، فالذي قال: (وأقيموا الصلاة) هو سبحانه الذي أوحى لرسوله صلى الله عليه وسلم القول: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، فكيف تقول بفرض الخلافة بأدلتها الشرعية، ولا تقول بطريقة إقامة الخلافة بأدلتها الشرعية التي رسمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الخلافة؟ ألمْ يردْ في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان واضح لطريقة إقامتها بطلب الرسول صلى الله عليه وسلم نصرة أهل القوة من القبائل ومن الأنصار في المدينة؟
أيجوزُ أن تأخذ حكم الوجوب لإقامة الخلافة من قول المجتهدين السابقين بناء على الأدلة الشرعية ولا تأخذ طريقة إقامتها من الأدلة الشرعية الواردة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
إن الخلافة كما هي فرض وفق الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه، فكذلك طريقة تنفيذها يجب أن تكون وفق الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه، سواءً بسواءٍ، كما هي باقي الأحكام من حيث الفكرة والطريقة، فكما أن الصلاة فرض وفق الأدلة الشرعية، فإن طريقة أدائها يجب أن تكون وفق الأدلة الشرعية، وهكذا الحج وغيره من الأحكام.
والرسول صلى الله عليه وسلم بيّن وجوب إقامة الخلافة (الدولة الإسلامية) وبين كذلك طريقة إقامتها عن طريق طلب النصرة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة في المدينة، فقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم... النصرة) انتهى كلام فضيلتكم رعاك الله!
والجواب:
أقول وبالله التوفيق هذا هو محل النزاع وسبب الخلاف بين حزب التحرير وفقه الله لما يحبه ويرضاه، وبين كل من يدعو لإقامة الخلافة منذ سقوطها، بل هو الخلاف بينه وبين فقهاء الأمة كلهم سلفا وخلفا، إذ لم يقل أحد فيما أعلم بأن هناك طريقة محددة لإقامة الخلافة، وأنها عبادة تؤدى كما تؤدى الصلوات والحج وسائر العبادات، وهو قول خطأ بلا شك، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وذلك من وجوه:
1- إنه لا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد طريقة معينة لإقامة الخلافة من بعده، وإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الخلافة، وحدد طبيعة النظام السياسي في الإسلام وأنه خلافة نبوة، وأنها تقوم على الشورى، وأنها لا يسوغ فيها التعدد، إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، والتي أجمع عليها الصحابة من بعده رضي الله عنهم، أما الطريقة والكيفية فلم يحددها الشارع، ولهذا اجتهد فيها الصحابة.
2- كما إن القول بأن إقامة الخلافة عبادة كإقامة الصلاة، مجرد رأي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، فالخلافة فرض واجب كفروض الكفايات التي لا تعبد في طريقة أدائها، وإنما التعبد في أدائها وإقامتها بذاتها، وهي في ذلك كالأمر بالمعروف، والجهاد في سبيل الله، فليس هناك طريقة محددة للأمر بالمعروف، ولا كيفية معينة، بل الواجب إزالة المنكر بكل وسيلة يستطيعها المكلف، فالمقصود إقامة هذه الواجبات، أما كيفية أدائها فهذا تركه الشارع للمكلف، يستعمل من الطرق والوسائل ما يحقق به مطلوب الشارع، فإذا دهم العدو أرض الإسلام وجب على الأعيان دفعه عنها بكل وسيلة وطريقة يمكنهم دفعه بها، إذ المقصود إخراج العدو، دون النظر إلى كيفية تحقق هذا المطلوب، ولم يقل أحد قط بأن فريضة الجهاد عبادة كالصلوات يجب الالتزام بأدائها على نحو محدد وطريقة معينة لا تسوغ إلا بها!
3- ثم إن الصحابة هم أول من أقام الخلافة بعد عهد النبوة، وقد اجتمعوا في السقيفة، وتشاوروا فيها، وارتفعت أصواتهم، واختلفوا فيها حتى قيل(منا أمير ومنكم أمير)، وحتى قال أبو بكر (إن العرب لا ترضى إلا بهذا الحي من قريش)..الخ، ولم يدع أحد بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها عبادة لا اجتهاد فيها، أو أنه حدد لهم طريقة للاختيار فيها، فضلا عن طريقة لإقامتها ذاتها، دع عنك القول بأنها كالصلاة تؤدى كما تؤدى الصلاة والحج!
4- أما الاحتجاج بطريقة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم للدولة الإسلامية، فهو احتجاج غير صحيح، من جهة أنه لا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل طريقته تلك، هي السبيل الوحيد لإقامة الدولة، بحيث لا يسوغ إقامتها إلا وفق تلك الطريقة التي أحاطت بها ظروف مكانية وزمانية اقتضت من النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ بها آنذاك، ولو فرض أن قريش آمنوا واستجابوا لكان دخولهم في الإسلام طواعية، ومتابعة العرب لهم كافية، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على قبائل العرب، ولما طلب النصرة، ولما هاجر... الخ.
ومن جهة أخرى فإن الفرق واسع بين إقامة الدولة النبوية - حيث هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة دار الشرك إلى المدينة بعد دخول أهلها بالإسلام، وبيعتهم له وهو في مكة على نصرته - وإقامة الخلافة التي لا تقام أصلا إلا في دار الإسلام حيث أهل الإسلام متوافرون، ولا يحتاج المسلمون فيها إلى البحث عن النصرة من أحد آخر كي يقيم معهم الخلافة، بل الواجب عليهم جميعا إقامتها وإلا أثموا جميعا، فلو فرض أن أهل الشوكة من المسلمين اليوم تداعوا لإقامتها، ونجحوا في إقامتها، لكان هذا كاف في حقهم، فقياس الخلافة وأحكامها، على إقامة الدولة الإسلامية، قياس مع الفارق، أو قياس فاسد الاعتبار، إذ إقامة الدولة بمثابة البناء للأصل، بينما الخلافة محافظة على هذا الأصل، فليست طريقة إقامة الدولة كطريقة إقامة الخلافة، على فرض أن لهما طريقة محددة، وعلى فرض أنها تعبدية، وعلى فرض أنه لا يسوغ الاجتهاد فيها.
والمقصود بأن الدولة الإسلامية، في أصل قيامها، احتاجت إلى دعوة أهل الشرك للدخول في الإسلام، ثم احتاجت إلى عرض نفسها على القبائل لحمايتها ونصرتها، حين لم يستجب أهل مكة للدعوة، ثم احتاجت للبيعة على الإيمان، كما في بيعة العقبة الأولى، ثم احتاجت إلى البيعة على الحرب، كما في بيعة العقبة الثانية، ثم احتاجت إلى الهجرة من دار الشرك إلى دار التوحيد والإيمان والإسلام، ثم إقامة الدولة وتأسيس أركانها، وبسط نفوذها...الخ للظروف الخاصة التي أحاطت بها، حيث الدار دار كفر وشرك، والمسلمون قلة مستضعفون، حتى وجدوا النصرة من أهل المدينة، فآووهم ونصروهم، وليس بالضرورة أن تكون تلك الظروف هي نفسها التي تحول اليوم بين الأمة وعودة الخلافة من جديد، إذ للاحتلال الأجنبي دور رئيسي هنا، فالواجب على الأمة دفعه، وتحرير نفسها وأرضها منه، ومن أتباعه وأشياعه، ولعل اسم (حزب التحرير) دليل على الحاجة إلى تحرير الأمة من الاحتلال الأجنبي الذي يحول بين الأمة والخلافة والعودة للإسلام وأحكامه!
فإقامة الخلافة في دار الإسلام وبين ظهراني أهل الإسلام حيث يبلغ عددهم مليار ونصف، لا تحتاج إلى شيء مما احتاجته الدعوة النبوية في مكة، فالخلافة عقد بين الأمة والإمام في دار الإسلام على إقامة أحكام الله، وسياسة شئون الأمة، فلا تحتاج إلى دعوة أحد إلى الإسلام، ولا أن تعرض على القبائل، ولا تحتاج إلى بحث عن نصرة.. الخ! بل تحتاج إلى أن يجتمع أهل الإسلام من خلال من يمثلهم ليختاروا خليفتهم، ويعقدوا عقد البيعة له، عن اجتهاد وتشاور ونظر كما فعل الصحابة يوم السقيفة، وكما فعل المسلمون بعد ذلك حين استقرت الخلافة في عصور كثيرة، حيث يبايع أهل الحل والعقد والعلماء الخلفاء الذين توافرت فيهم الشروط، كما هو حال كثير من خلفاء بني العباس، وخلفاء بني عثمان.
فإذا كان المسلمون قد افترقوا بسبب الاستعمار إلى دول وشعوب، فالواجب عليهم بعد تحررهم من الاحتلال الخارجي وعميله الداخلي، أن يبادروا لتوحيد الأمة، وإقامة الخلافة الواحدة، وتكون حكوماتهم – القطرية - التي اختاروها بالرضا والشورى هي بمثابة أهل والعقد الذين يمثلون الأمة، فيقيمون الخلافة التي تجمع شتات الأمة وتوحد بينهم.
5- ثم إن الادعاء بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم - في دعوته من أجل إقامة دولته - يقتضي الوجوب، يحتاج إلى دليل ناهض، إذ غايته أن يدل على الاستحباب في الاقتداء بطريقته في إقامة الدولة، ولا دليل على تحريم الطرق الأخرى.
6- كما إن أحكام العهد المكي تختلف عن أحكام العهد المدني، فالأمة ومنذ نزول قوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم}، وهي في حال استخلاف إلى يوم القيامة، حتى وهي في مرحلة الاستضعاف، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)، فالأمة في حال جهاد إلى قيام الساعة، إذ بعد قيام دولة الإسلام، ونزول الأحكام، وتحقق موعود الله للأمة بظهورها وظهور دينها، لم تزل مخاطبة بكل الأحكام الشرعية والفروض الكفائية كالجهاد سواء وجد خليفة أو لم يوجد، ومن ذلك إقامة الخلافة، فإذا ارتد الخليفة وكفر، فالواجب عزله، فإن استعصم، فالواجب جهاده وقتاله ونصب الحرب له، كما في حديث: (إلا أن تروا كفرا بواحا) وحديث: (ألا ننابذهم السيف..)، ولا يقال بأنه يجب على المسلمين المخاطبين بالحكم الشرعي في دار الإسلام أن يبحثوا عن النصرة، وأن يعرضوا أنفسهم على من ينصرهم.. الخ، بل الواجب على الأمة أو من استطاع منها أن يغيروا هذا المنكر، بكل وسيلة لعموم (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده..)، وحديث: (يكون أمراء يفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن..).
وكذا يقال في حال فراغ منصب الخلافة وسقوطها أو تفرق الأمة وتشرذمها، أو سقوطها تحت احتلال العدو، فالواجب على المسلمين كافة، وأهل القدرة والشوكة منهم خاصة، العمل على تحريرها بجهاد العدو وإخراجه، ونصب الخليفة وتوحيد الأمة، وتغيير هذا المنكر بكل وسيلة، ولا حاجة للقول بأن الواجب أن يعرض المسلمون أو طائفة منهم أنفسهم على من ينصرهم.
7- ثم إنه على فرض وجود طريقة نبوية محددة لإقامة الخلافة، فإن وجود (حزب التحرير) مشكل في حد ذاته، إذ تأسيس حزب التحرير، وترخيصه، واختيار أميره، وتأسيس فروعه، وعقد مؤتمراته ..الخ كلها اجتهادات لا أحد يستطيع القول بأنها سنة توقيفية عن النبي صلى الله عليه وسلم!
8- ولو أن (حزب التحرير) تبنى هذا القول على أنه اجتهاد منه، ورأي ارتآه، لكان يسعه ذلك، إلا أن المشكل هو أنه جعله سنة بل أصلا من الأصول، ربما يشنع على كل من خالفه فيه، ولعل ذلك ما زاد الشقة بينه وبين الآخرين، مع عدالة القضية التي يطرحها، وإخلاصه لها، وتضحياتها من أجلها، حين لم يجعل للآخرين حق الاجتهاد والنظر، في أمر يسع فيه الخلاف، ما دام هدف الجميع هو إقامة الخلافة، وكلهم يقول بوجوبها.
ثانيا: قولك رعاك الله: (2-ولكنك وضعت في الباب العاشر طريقة من عندك، فقلت باتحاد طوعي بين شعوب الأمة ودولها ثم يختار هذا الاتحاد مجلساً رئاسياً كمجلس خلافة...، وقلت بأهداف متوسطة وأهداف نهائية...، وقلت بأهدافٍ استراتيجية بعيدة قد تحتاج إلى عقود، وأهداف متوسطة المدى قد تحتاج إلى بضع سنين...، وأن تعمل التنظيمات القطرية المكونة للتنظيم الدولي "مؤتمر الأمة" تعمل على الإصلاح السياسي في كل قطر، وتتعرف على القوانين والأنظمة الموجودة والاستفادة منها في تحقيق أهداف التنظيم، بل والاشتراك في السلطة القائمة كهدف سياسي مرحلي، وأكدت ذلك بالقول: "يعمل المؤتمر لتحقيق أهدافه بكل الوسائل السلمية والمشروعة ومن ذلك: ...المشاركة السياسية للوصول للسلطة التشريعية والتنفيذية.."
وكل هذه تقديرات وتصورات لإقامة الخلافة من خلال أهداف مرحلية ونهائية، لا سند شرعياً لها، وهي مع مخالفتها للطريقة التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الدولة الإسلامية (الخلافة) وسار عليها فعلاً حتى أقام الدولة في المدينة، أقول مع مخالفتها الشرعية هذه، إلا أنها كذلك تتناقض مع واقع الدول القائمة فضلاً عن مخالفة بعض ما جاء فيها لما ذكرته أنت في الأبواب السابقة من كون الحكام طواغيت يحكمون بغير ما أنزل الله ويجب تغييرهم!) انتهى كلام فضيلتكم.
والجواب:
هذا دليل آخر على أن موطن الخلاف بين (حزب التحرير) - وفقه الله ورعاه وسدد خطاه - وبين الأمة كلها، هو تصوره بأن هناك طريقة تعبدية محددة لإقامة الخلافة! ثم قياسه الخلافة على إقامة الدولة النبوية! ثم تصوره بأن الطريقة التي هو عليها هي الطريقة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم! وأن من خالفها خالف السنة بل فعل باطلا!
ولو نظر فضيلتكم إلى الموضوع بالنظر الفقهي الصحيح لبان لكم بأن ما ذكرته أنا هنا ليس تصورا من عندي، بل هو التصور الذي دعا إليه علماء الأمة الذين عايشوا سقوط الخلافة، كرشيد رضا وغيره من علماء الأمة آنذاك، وهو الذي يقتضيه الدليل {وتعاونوا على البر والتقوى}، وكذا يقتضيه النظر الشرعي السياسي، فإن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الخليفة {وأمرهم شورى بينهم}، وهي المخاطبة شرعا بوجوب إقامة الخلافة، وهي ما زالت في دار الإسلام، ومخاطبة بدفع العدو الكافر عن الدار وتحريرها{وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم}، ومخاطبة بالوحدة {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}..الخ فالواجب على المسلمين في كل أقطارهم التداعي لهذا الأمر وتوابعه {وتعاونوا على البر والتقوى}، فإذا كانوا في حال ضعف، فالواجب عليهم إعداد كل ما من شأنه تحقيق القوة لهم لتتحقق لهم الشوكة، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، وبما أن القوة مطلقة عامة، تشمل كل ما يصدق عليه أنه قوة وهو راجع لظروف كل عصر وأهله، فإن من القوة لتغيير الأوضاع في كل بلد القوة السياسية، التي باتت تمثل العصبية والشوكة في هذا العصر، مكان العصبية القبلية في عصر النبوة، فإذا ما قامت تنظيمات في كل بلد، واعصوصب لها المسلمون بالانضمام إليها، حتى صاروا قوة وشوكة قادرة على تغيير أوضاع بلدهم بما أمكن لهم سلما أو ثورة، تحقق فيهم أنهم أهل الشوكة، الذين يصلحون أن يتولوا تمثيل بلدهم في مشاركة الأمة في تقرير هذا الأمر العظيم، وتوحيد الأمة وإقامة الخلافة الراشدة.
ثم لو افترضنا أن شعوب العالم الإسلامي اليوم قامت بالتغيير، واختار كل قطر حكومة إسلامية، فإن الواجب الشرعي يفرض على هذه الحكومات، والأحزاب التي أقامتها، أن تبادر لتوحيد الأمة وبلدانها، وإقامة الخلافة، ولا يتصور غير ذلك، ولا يمكن أن يقال لهم بأنه لا يسوغ ذلك لهم، حتى تطلب طائفة منهم النصرة، وتؤيدها طائفة أخرى، لأنهم جميعا مسلمون، وهم جميعا مخاطبون بالتعاون على إقامة هذه الفروض الكفائية.
فنحن في (مؤتمر الأمة) تنظيمات سياسية تؤمن بمشروع الأمة الواحدة والخلافة الراشدة، تبني نفسها في كل بلد إسلامي، لتناضل نضالا سياسيا سلميا أو ثوريا حتى تغير هذه الحكومات التي لا تعبر عن إرادة الأمة ولا اختيارها، فإذا ما تحقق لها ذلك، وجب عليها التداعي والتعاون كلها، أو أكثرها، لتوحيد الأمة وإقامة الخلافة، فهذا ما ندعو إليه، ولم نقل قط بأن الحكومات الحالية غير الشرعية هي التي ستقيم الخلافة ؟!
ولا نقول أيضا بأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي لا يجوز غيرها، بل هذا هو الرأي السياسي المعقول والمقدور للأمة لتغيير أوضاعها، وأما مفاجآت التاريخ وفرصه السانحة فهذه في علم الله، وقد تحدث في أي لحظة تحولات فجائية في أي دولة مركزية في العالم الإسلامي، تعيد رسم خريطة المنطقة من جديد، وليس ذلك على الله ببعيد.
ثالثا: قولك رعاك الله: (يا أخي، كيف يستقيم القول إنهم طواغيت...مع المشاركة في سلطتهم وبقاء أنظمتهم بل الاستفادة من قوانينهم وأنظمتهم في مشروعك لإقامة الخلافة؟! قد تقول أشارك لأصلحهم، وهل المشاركة في سلطة الطواغيت تصلحهم أو هي تفسد المشارك في سلطتهم؟! هذا فضلاً عن الإثم الواقع فيه من يشارك في حكم لا يحكم بما أنزل الله حتى لو كانت المشاركة ساعةً من نهار، فكيف وأنت ترى هذه المشاركة هدفاً مرحلياً قد يستمر بضع سنين هذا إن لم يكن عقوداً؟!
كما أنك لا شك تدرك أن هؤلاء الحكام يحاربون الخلافة والعاملين لها، فكيف يتوجه هؤلاء إلى إيجاد الخلافة باتحاد اختياري بينهم، وبقاء دولهم على قيد الحياة؟
ثم ما هذا؟ أتجتمع دول في إطار اتحادي وتختار مجلساً رئاسياً تسميه مجلس خلافة، ومن ثم تكون دولة خلافة؟! أهي جامعة عربية أم مؤتمر إسلامي أم في أحسن حالاتها اتحادا أوروبياً؟!
وهل دولة الخلافة مجهولة من حيث الواقع ومن حيث الشرع حتى يُسعى لها خبط عشواء؟!
إن الخلافة لا تُقامُ من رحِم الأنظمة الوضعية بإيجاد اتحاد بينهم، حتى وإن تمّ، بل الخلافة تُقامُ بتغيير الأنظمة الوضعية كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تغيير الأنظمة الجاهلية وأقام أحكام الإسلام مكانها، فأقام الدولة الإسلامية بطريقة واضحة جلية (طلب النصرة)، وأنت لا شك تدرك وجوب التزام طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم دون حَيْد، فلا يستقيم إذن صنع مشروع لإقامة الخلافة على غير الطريقة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقلت أيضا (وفي الوقت نفسه فإنه لَيَحزُنُ الحزبَ أن يرى أو يسمع أن هناك كُـتَّاباً يدعون للخلافة بقلْبِ وجهها رأساً على عَقِب، فينادون بها اتحاداً بين حكام طواغيت يحكمون بأنظمة ما أنزل الله بها من سلطان، ويُوجِدون لهذا الاتحاد مجلساً يسمّونه مجلس خلافة، كأنه مؤتمر إسلامي أو جامعة عربية، أو في أحسن حالاته اتحاد أوروبي بين دول ذات كيانات منفصلة بسلطانها عن بعضها، ومع ذلك يسمون مشروعهم هذا مشروع خلافة! فيعملون، علموا أم لم يعلموا، على تشويه صورة الخلافة في أذهان المسلمين، ويشوشون على العاملين لها) انتهى كلام فضيلتكم.
والجواب :
1-كل من قرأ ما كتبته في (الحرية أو الطوفان)، وما كتبته في (تحرير الإنسان)، (والفرقان)، و(أهل السنة)، وغيرها من الرسائل والكتب المطبوعة والمنشورة في موقعي، يعرف موقفنا من الحكومات، وعدم الاعتراف بشرعيتها، فنحن لا نعترف بشرعية كل هذه الأنظمة التي فرضها الاستعمار الغربي، ونرى وجوب تغييرها، ولا نظام شرعي في الإسلام إلا الخلافة على أصولها، وإنما المشكل هنا في ما هو الواجب على الأمة في كل بلد، حتى ولو كانت حكومته غير شرعية؟ هل يتعطل المسلمون عن القيام بما يستطيعون القيام به من الواجبات الشرعية كما أمر هم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)؟ أم يجاهدون في الله حق جهاده بكل وسيلة ممكنة ابتداء بجهاد الكلمة (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر)، وانتهاء بمنابذتهم السيف، والأخذ بذلك بحسب القدرة والاستطاعة (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن..)، (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه...)؟
فإذا قلنا بأن الأمة مخاطبة في دار الإسلام بكل الأحكام منذ نزول {اليوم أكملت لكم دينكم}، فالجواب هو أنه يجب عليها القيام بكل ما تستطيع إقامته من أحكام، ولا يشترط لجهاد العدو الكافر وجود الخلافة، وكذا لا يشترط لرفض ما يمكن رفضه من الظلم وجود الخلافة، وكذا كل الأحكام الشرعية، بما فيها الخلافة نفسها وإقامتها، فإن الواجب بإجماع الأمة الخروج بالقوة على الإمام إذا كفر، فإذا قلنا بكفر هذه الأنظمة كلها، أو بعدم شرعيتها كلها، بقطع النظر عن كفرها من عدمه، فالواجب هو تغييرها بالقوة لمن قدر عليه، كما تواترت بذلك النصوص وقام عليه الإجماع في حال كفر الإمام، والخلاف في حال فسوقه وجوره وعدم شرعية إمامته.
وإذا قلنا بأننا في العهد المكي، ويجب أن لا تقوم الأمة إلا بما وجب عليها في العهد المكي، فسيختلف الجواب كلية، إذ معناه أن الدار كلها دار شرك وحرب، فلا يجب على المسلمين جهاد دفع عن أرضهم، بل يجب الهجرة منها أو تستحب..الخ وهي إلزامات لا بد منها!
ثم إننا نقول بأن الأرض والدار هي أرض الإسلام ودار المسلمين، وإن تسلط عليهم عدوهم، والأمة هي الأمة التي خاطبها الله بكل الأحكام الشرعية، وولايتها على نفسها قائمة بكل حال بعموم قوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، وقوله {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}، وقد نقلت من الأدلة الشرعية ومن كلام الأئمة الفقهاء من كل المذاهب في (تحرير الإنسان) نصوصهم على أن (الجماعة تقوم مقام الإمام عند فقده أو كفره أو عجزه أو أسره أو انقطاع نفوذ أمره)، إذ هو وكيل عن الأمة فإذا عدم لم تعدم الأمة، ولا تتعطل الأحكام، وكون الحكومات اليوم غير شرعية، لا يقتضي اعتزال الأمة للواقع وتركه لهذه الحكومات لتفعل فيها ما تشاء، ولا يقتضي العمل على تغيير الواقع وإصلاحه الاعتراف بالشرعية الدينية لهذه الحكومات، بل هي حكومات بحكم الأمر الواقع، لا بحكم الشارع، والواجب الشرعي أن تقوم الأمة بتغيير هذه الحكومات بكل ما تستطيع، فإن عجزت عن تغييرها، فيجب عليها منعها من ظلمها والأخذ على يدها، حسب الاستطاعة، كما قال شعيب {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}!
ثم إن اعتقاد أن طبيعة الحكومة هو الأصل الذي تترتب عليه الأحكام – وليس وجود الأمة - هو الذي يفضي إلى الخلل في تقرير الحقوق السياسية في هذا الباب للأمة في كل بلد إسلامي، إذ يقتضي النظر لطبيعة الحكومة والحكم عليها بأنها طاغوتية منع المسلمين كلهم من العمل في وظائف الدولة كلها، التي هي في الأصل دارهم ودولتهم وأرضهم وهم شعبها، وكذا يفضي إلى منع أخذ الموظفين لحقوقهم المالية، التي هي في الأصل أموال الأمة، وكذا تحريم حمل جنسية هذه الدول، وتحريم استخدام جوازاتها، وتحريم اللجوء إلى المحاكم لانتصاف أصحاب الحقوق..الخ كل ذلك بدعوى أن الحكومات غير شرعية أو طاغوتية!
والصواب عكس هذه الصورة تماما فبطلان ولاية هؤلاء الطغاة، لا يقتضي بطلان ولاية الأمة على نفسها وأرضها وثرواتها، وحقها في تغيير هذه الحكومات، بالثورة والقوة إن استطاعت، أو بالعمل السلمي، وسواء كان الإصلاح كليا أو جزئيا.
كما إن هذه المسألة متوالية لا يسلم منها أحد لا حزب التحرير ولا غيره، اللهم إلا من يحرم اللجوء لهذه الحكومات بأي شكل من الأشكال، فلا يحمل جنسيتهم ولا جوازهم ولا إقامتهم..الخ ولا أظن أن حزب التحرير يمنع أعضاءه من كل هذه الأمور.
ثم من قال بأننا ندعو الحكومات الطاغوتية إلى اتحاد فيما بينها لإقامة الخلافة؟ ومن أين يؤخذ ذلك من كلامي؟ وكيف يستقيم ذلك مع كل ما قررته في كتبي من وجوب تغييرها والثورة عليها؟!
فهذا ما لم يخطر لي في بال ولا عبر لي في خيال! والخلافة لن تقوم إلا بعد تحرر الأمة من نفوذ العدو الخارجي، وقبضة العدو الداخلي، وعودتها إلى دينها ورشدها، وإسقاط الطاغوت، وإنما الحديث هو في حال عجز الأمة : هل يسوغ دفع هذه الحكومات التي تتصرف في شئون الأمة، والضغط عليها لمنعها من الانحراف والتفريط أكثر وأكثر، ودعوتها أو الضغط عليها لتحافظ على مصالح الأمة وحقوقها؟
وهل يجوز للشعوب أن تضغط من أجل الوحدة كما تفعل دول الخليج والجزيرة العربية خوفا من الأخطار الخارجية؟
وهل إذا قامت الشعوب بمثل هذا الضغط - واستجابت الحكومات لذلك حفاظا على مصالحها - يكون ذلك أمرا محرما غير مشروع بدعوى أنها حكومات طاغوتية أو غير شرعية؟
وهل إذا ضغطت الشعوب على الحكومات كما جرى في حرب غزة لتتخذ موقفا من العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني يكون ذلك فعلا جائزا أم غير جائز؟!
وإذا قلنا بالجواز للشعوب بممارسة مثل هذا الفعل فهذا حكم شرعي لا فرق فيه بين مسلم عامي ومسلم حركي أو من حزب التحرير!
وكذا إذا ثار شعب من شعوب العالم الإسلامي بسبب تردي أوضاعه الاقتصادية حتى خرج إلى الشوارع للقمة العيش هل له فعل ذلك شرعا أم لا؟
وإذا ترتب على تلك المظاهرات سقوط الحكومة وقيام الشعب بالسيطرة على الحكومة وإعلانها حكومة إسلامية فهل له ذلك أم لا؟
وقد وقفت شعوب العالم الإسلامي كله ضد الحرب على العراق والعدوان عليه، مع أن حكومته بعثية وغير شرعية، فهل كان دفاع المسلمين عن العراق دفاعا عن الطاغوت والأنظمة غير الشرعية؟
2-وعلى كل حال فنحن نرى ضرورة أن تقوم التنظيمات السياسية في كل بلد بشكل علني أو سري، وتعمل بشكل سلمي أو ثوري، لتغيير المنكر، وإصلاح الأوضاع السياسية في كل بلد، والاستفادة من كل مجال يمكن الاستفادة منه، فالحق في الأصل للأمة، فلا تمتنع عن تطوير قدراتها بحسب الإمكانات المتاحة في أوطانها المسلوبة وبلدانها المنهوبة، ولا يحق منعها من ذلك بدعوى أن نظام الحكم غير شرعي أو طاغوتي، فإذا ما نجحت في تغيير الحكومات غير الشرعية، وتحررت بلدانها من أي نفوذ خارجي، وأي استبداد داخلي، وجب عليها المبادرة لتوحيد الأمة، وإقامة الخلافة، وقد فصلت ذلك في مقالي (من الحكومات الراشدة إلى الخلافة الراشدة)!
فهذا ما قصدته ولم أقصد قط أن تقوم الحكومات الحالية غير الشرعية إلى الاتحاد وإقامة الخلافة، فهي لا تملك أصلا من أمرها شيئا، ولو فعلت ذلك لما كفر ذلك عنها من ذنبها شيئا، ولما غير ذلك من الحكم عليها بعدم شرعيتها وطاغوتيتها، حتى ترجع عن ردتها الجامحة، وتعود لإسلامها، وما هي لو استطاعت براجعة!
3- ثم ما هو الفرق المؤثر شرعا بين أن يقوم المسلمون بدعوة حكوماتهم الموجودة الآن برفع الظلم عنهم، وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتوحيد ما يمكن توحيده من شعوب الأمة، وبين دعوة (حزب التحرير) وطلبه النصرة من هذه الحكومات، ودعوته لها أن تنصره، وتقوم بالإعلان عن الخلافة، ما دامت هي حكومات طاغوتية وغير شرعية؟
فإذا جاز لحزب التحرير دعوة هذه الحكومات الطاغوتية إلى الإسلام والنصرة وإعلان الخلافة، جاز لغير الحزب دعوة هذه الحكومات للمحافظة على حقوق الأمة ومصالحها ووحدتها إلى أن يتم تغيير هذه الحكومات نفسها وإسقاطها، أو إصلاحها، وإعلان حكومات إسلامية تتحد فيما بينها لإقامة الخلافة الواحدة والأمة الواحدة.
4-وأما المشاركة السياسية فهي تختلف من بلد إلى بلد، وهي محل اجتهاد ونظر، لا يقطع فيها بقول واحد، إذ ليست البلدان في العالم الإسلامي على نمط واحد، ولا الأوضاع فيها واحدة، فليس الوضع في السودان كالوضع في سوريا، ولا الوضع في السعودية كالوضع في تونس، ولا الوضع في اليمن كالوضع في ليبيا، ولا الوضع في تركيا كالوضع في مصر، فمن تحقق لديه أن بإمكانه من خلال العمل السياسي السلمي الوصول إلى تغيير الأوضاع المنكرة، وإصلاحها بشكل كلي أو جزئي، فله المشاركة فيها، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وكون الحكومات غير شرعية لا يقتضي أن يكون كل فعل يصدر عنها محرما، فالمسلمون فيها يتعاونون معها على ما كان فعلا مشروعا أو خيرا أو عدلا أو مصلحة، ويحرم عليهم التعاون معها على المحرم والظلم والمفسدة والشر، ولا يصدق على من كان كذلك بأنه مشارك لهم في باطلهم وكفرهم، إلا من رضي بفعلهم أو أعانهم عليه، أما من عارضه ورفضه وبرأ إلى الله منه، فليس عليه من تبعاته شيء، كما جاء في الحديث(فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه).
وكذا حال المسلمين في دار الكفر، فإن لهم أن يعينوا قومهم ويتعاونوا معهم على البر والتقوى، ولا يتعاونوا معهم على الإثم والعدوان، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم حلفا في بيت عبد الله بن جدعان على نصرة المظلوم وقال لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت!
رابعا: جاء في رسالتك الكريمة (3-ثم إن هناك أموراً تخالف الأحكام الشرعية تخللت حديثك عن تصوراتك لإقامة الخلافة: فأنت تقول: " يتكون المؤتمر من التنظيمات القطرية التي شاركت في تأسيسه أو وافقت على الانضمام إليه، وتكون اجتماعاته دورية، ويرأسه أكبر الأعضاء سناً، وتتخذ قراراته بالأغلبية، مع حق التحفظ لكل تنظيم على أي قرار، فيصبح القرار ملزماً فقط لمن وافق عليه."
والواجب هو أن تُتَّخذ هذه القرارات وفق الدليل الشرعي الأقوى وليس بالأغلبية، لأن المفترض في هذه القرارات أنها معالجات شرعية لمسائل تعرض على المؤتمر، أي أحكام شرعية، والحكم الشرعي يؤخذ وفق الدليل، سواء أأيده كثير أم قليل، وكأن هذه زلة لسان أو زلة قلم، فلا أظنك تقصد أخذ الحكم الشرعي وفق رأي الأغلبية، إلا إذا كنت تقصد القرارات الإدارية وليست المعالجات الشرعية مع أن سياق الحديث لا يفيد ذلك) انتهى كلام فضيلتكم.
والجواب:
بل هذا الذي قصدناه ولا يحتمل النص غيره، فمؤتمر الأمة هو اتحاد تنظيمات سياسية قائم بالفعل ويعمل منذ سنوات، ويعقد مؤتمراته، بعيدا عن الإعلام، وهو يتخذ قراراته الإدارية بالتصويت ورأي الأغلبية، ولمن رفضها الحق بالتحفظ عليها وعدم الالتزام بها، وأما الأحكام الشرعية فلها أهلها والمتخصصون فيها في المؤتمر.
خامسا: وجاء في رسالتكم أيضا (وأنت تقول: "ففي الوقت الذي قامت تنظيمات شيعية تحمل المشروع السياسي لولاية الفقيه وهي نظرية حديثة لم يعرفها الشيعة إلا في هذا العصر، لم يقم في المقابل أي تنظيم سياسي يحمل المشروع السياسي السني الراشدي، مع أن الخلافة الإسلامية كنظام سياسي ظل يحكم واقع الأمة ثلاثة عشر قرناً"،
والواجب هو أن لا تعالج المسألة بخطاب سُنّيّ في مقابل خطابٍ شيعيّ، بل بخطاب إسلامي كما كان في صدر الإسلام ﴿هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ﴾ دون تقسيم المسلمين إلى سُني وشيعي، فإقامة الخلافة واجبة على كل مسلم، سنياً كان أم شيعياً أم أباضياً أم زيدياً...).
والجواب:
هذا هو خطاب (مؤتمر الأمة) وهو واضح في ما قرره في رؤيته الاستراتيجية، فقد كان الإسلام قبل أن تكون الطوائف والمذاهب، إلا أن الخطاب السني - نسبة إلى السنة النبوية - والخطاب الراشدي - نسبة إلى الخلفاء الراشدين - يتعارضان مع الخطاب الشيعي الإمامي، ولا يمكن الادعاء بأن الشيعة الإمامية يؤمنون أو يقبلون الخلافة الراشدة، أو الخلافة العامة التي حكمت العالم الإسلامي مدة ألف وثلاثمائة سنة، ولهذا كان لا بد للمؤتمر أن يكون واضحا في دعوته وعقيدته السياسية، وليس بالضرورة أن يقبلها الجميع، وإنما العبرة هي في موقف المؤتمر من طوائف الأمة وأنها في دائرة الإسلام، والجميع سواء في الحقوق والواجبات، سواء كانوا في ظل حكومة راشدة في قطر من الأقطار، أو خلافة راشدة تضم كل أو أكثر الأقطار!
سادسا: وجاء أيضا في رسالتكم: (وأيضاً فبدل أن تكتفي بإظهار أهمية العرب في الإسلام لأنهم أهل لغته، ركزتَ على تفضيلهم على غيرهم من المسلمين، فأنت تقول: "إذ إن من أصول أهل السنة والجماعة تفضيل العرب.." ما يوجد (نَفَساً) عصبياً لا يصح في هذا السياق، فهو مخالف للآية الكريمة ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى..»، ، وكان الصواب أن تكتفي بذكر أهمية العرب دون البحث بتفضيلهم على غيرهم...).
والجواب:
تفضيل العرب ليس من العصبية في شيء بل هو ثابت بالسنة كحديث (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريش من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار)، وغيره من الأحاديث، ولا يتعارض ذلك مع {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} إذ تفضيل الله للعرب باختيار آخر رسله منهم لا يقتضي فضل عربي على أعجمي، بل أكرم الناس عند الله أتقاهم، أما فضائلهم التي ثبتت لهم فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، كما فضل الله بني إسرائيل على العالمين في عصرهم، بما أرسل فيهم من رسله وأنزل من كتبه، وإن كان تفضيل الجنس، لا يقتضي فضل كل آحادهم على آحاد غيرهم، وكذلك العرب ففضلهم لا يقتضي أن يكون آحادهم خيرا من آحاد غيرهم، بل لا فضل لأحد على أحد، وأكرمهم عند الله أتقاهم!
ويؤكد ذلك أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه بنص{كنتم خير أمة أخرجت للناس} والمقصود به أصلا هم الصحابة، وقد ثبت فضلهم وفضل القرن الذي يليهم ثم من يليهم، فصح أن جنس العرب الذين فيهم الصحابة خير من جنس غير العرب، مع أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم.
نعم يصح أن يقال بأن هذه عصبية جاهلية لو كانت بالأهواء، أما وقد ثبت فضلهم وتفضيل الله لهم بالسنة الصحيحة المشهورة بل المتواترة، وهو قول أهل السنة والجماعة مع أن أكثرهم على مر العصور من غير العرب اتباعا منهم للسنة، وتكريما منهم للنبي وأصحابه الذين كانوا السبب في هداية كل الأمم إلى قيام الساعة، فلا يصدق عليه أنه من العصبية، مع أنني ذكرت هذا الموضوع لا لبيان فضل العرب، بل لبيان ضرورة التركيز على العرب في الدعوة إلى مشروع الخلافة، لأسباب كثيرة منها هذا السبب!
سابعا: أما عتاب فضيلتكم الذي ورد في رسالتكم الكريمة فأعتذر عن أي إساءة بدرت مني بحقكم فسابقتكم في هذا الباب معلومة لا تخفى على أحد، أنتم وغيركم من الجماعات الأخرى، وما (مؤتمر الأمة) إلا امتداد لهذا العمل المبارك، ويعلم الله أننا نذكركم بكل خير هو فيكم، بين كوادر التنظيمات في المؤتمر، وقد ورد في الرؤية الإستراتيجية للمؤتمر أن هذا التنظيم الدولي هو امتداد لدعوة المصلحين منذ رشيد رضا وحسن البنا وتقي الدين النبهاني وغيرهم من المصلحين، إلا أن الأزمة عامة يعيشها الجميع، وهو أن نضال هذه الحركات والجماعات ظل نضالا دعويا وفكريا وتربويا وجهاديا وثقافيا، بما في ذلك تأليف الرسائل وعقد المؤتمرات عن الخلافة، وكثرة التضحيات المبذولة من الجميع حتى ذهب الآلاف في السجون، وكل ذلك بلا مشروع (سياسي سني) يخاطب جماهير الأمة، ولا (نضال سياسي) ينازع الحكومات القائمة بشكل سلمي أو ثوري، وهي أزمة خاصة بأهل السنة، وقد حاولت معالجتها برسائل كثيرة منها رسائل(نحو وعي سياسي راشد)، فعسى أن يتضح منها مقصودي بأزمة (المشروع السياسي السني) والنضال السياسي من أجله، وكيف يتحول موضوع الخلافة من فكرة إلى عمل وثورة وإصلاح وتغيير وفق سنن المغالبة والمنازعة، التي عليها مدار كل مشروع سياسي، ولا تثريب على من يرى أن الخلافة لا تتم إلا بطلب النصرة، فهذا رأي واجتهاد، إلا أنه لا يمكن أن يطلق عليه أنه مشروع سياسي، أو أن من يمارسه يمارس نضالا سياسيا، بل هو مشروع فكري ديني، يحتاج إلى عمل سياسي ينزل به إلى الأرض ويقاتل عليه، ويدافع وينازع حتى يصل به إلى السلطة والحكم.
كما لا يمكن أن تكون تجربة السودان والحركة الإسلامية فيه، وكذا العمل السياسي الذي يمارسه (الأخوان المسلمون) ونضالهم للوصول للسلطة في بعض البلدان (مشروعا سياسيا سنيا)، بل هو مشروع سياسي لا هوية عقائدية له!
وفي الختام أكرر لفضيلتكم اعتذاري عن أي خطأ بدر مني بلا قصد، وعن أي إساءة وردت في ثنايا كتاباتي، وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد والنصر والثبات، وما بيننا من أخوة الإيمان والإسلام أوثق عرى من أن ينقضها اختلاف في الرأي في جزئية (طريقة إقامة الخلافة)، فإن فتح الله عليكم فستجدوننا أول من يقف معكم وينصركم ويتعاون معكم على البر والتقوى وينصح لكم، وإن فتح الله علينا فأنتم العمق الاستراتيجي لنا، وكذا كل الحركات الإسلامية الأخرى، وإلى أن يتحقق النصر وتعود الخلافة، فسنكون وإياكم أخوة متحابين في الله، متآخين فيه، ومتواصين بالحق، ومتواصين بالصبر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التاريخ 10 /12 /2010م
المنسق العام لمؤتمر الأمة
د. حاكم المطيري
ـــــــــــــــــــــ
مواضيع ذات صلة:
الحــريـــــة أو الطــوفـــــان
أهل السنة والجماعة الأصول العقائدية والمشكلات السياسية
(التيار الإسلامي وأزمة المشروع السياسي)