الحرية هي التوحيد
- بواسطة مؤتمر الأمة --
- الخميس 15 جمادى الثانية 1434 03:11 --
- 0 تعليقات
بقلم د. حاكم المطيري
سألني بعض الأخوة : لم كل هذا الاهتمام بالحرية في مقالاتك وكل هذه العناية بها ولم لا تكون الشريعة والتوحيد هو الهدف والغاية ؟
فقلت له : هناك سببان لهذا الاهتمام :
أما الأول فلأن تحقيق الحرية غاية شرعية في حد ذاتها بل الحرية من أشرف مقاصد كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فالعبودية إنما هي لله ثم الخلق بعد ذلك أحرار مع من سواه فالخضوع والطاعة والرغبة والرهبة هي لله وحده الذي له الخلق والملك والأمر والحكم كما قال تعالى {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} وقد فسر النبي معنى الربوبية هنا بطاعة الرؤساء والأحبار والرهبان والخضوع لهم وجاء في الحديث (إنما السيد الله ) فهو الذي له السيادة المطلقة فإذا كان السيد هو الله وهو الملك والرب والحاكم فليس للخلق على بعضهم سيادة ولا طاعة ولا حكم ولا خضوع إلا بإذن الله وهذا هو معنى الحرية الإنسانية وقد تقرر في الشريعة قاعدة (الأصل في الإنسان الحرية) وأما الرق فهو طارئ يجب العمل على التخلص منه إذ أكثر الأحكام الشرعية وأجلها وأشرفها منوطة بالحرية كالإمامة العامة والجهاد والجمعة والجماعة والحج والزكاة فكلها يشترط فيها الحرية وتسقط في حال العبودية والاسترقاق ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحرير رقيق العرب فقام عمر بتحرير كل عربي تم استرقاقه في الجاهلية ودفع ثمن ذلك من بيت المال فكان العرب أول أمة في التاريخ الإنساني تتخلص من الرق بشكل نهائي ومن جميع أشكاله وتحققت فيهم الحرية بنوعيها المعنوية والصورية ولم يبق فيهم عبد ولا رقيق منذ عهد عمر وإنما بقي الرقيق من غير العرب لكون الأمم الأخرى تسترق أسراها في الحروب فكان العرب الفاتحون يعاملونهم بالمثل إذ الاسترقاق أهون من القتل ومع ذلك جعلت الشريعة تحرير الرقيق عموما من أفضل القربات وكفارة لبعض المحظورات سواء كان الرقيق مسلمين أو غير مسلمين بل أمر القرآن بتحريرهم من بيت مال المسلمين وأوجب على السادة مكاتبة من يريد فداء نفسه منهم ومساعدتهم بالمال كما قال تعالى {وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} كل ذلك يؤكد مدى عناية الشريعة بحرية الإنسان وتحريره من كل أشكال العبودية لغير الله تحريرا ماديا ومعنويا ولهذا قال عمر كلمته الخالدة دفاعا عن قبطي مسيحي ظلمه بعض الأمراء(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) فسمى عمر الظلم استعبادا مع أن القبطي لم يكن عبدا ولا رقيقا بل كان حرا إلا أن استذلاله وظلمه استعباد معنوي له فالعرب تسمي كل تذلل وخضوع للغير عبودية وإن كان الخاضع لغيره حرا في نفسه إذ هي حرية صورية شكلية ولهذا قال ربعي بن عامر لرستم (إن الله بعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد) ومعنى عبادة العباد أي الخضوع والطاعة للملوك والرؤساء والأحبار والرهبان ومنه قول موسى لفرعون {وتلك نعمة تمنها علي أن عبّدت بني إسرائيل} ولم يكن بنو إسرائيل رقيقا لفرعون بل كانوا أحرارا غير أنهم لما كانوا خاضعين لحكمه مستسلمين لظلمه صدق عليهم أنهم عبيد لا أحرار بل جعل الإسلام هذه الحرية المعنوية من أصول الدين وقطعياته فلا عبودية إلا لله ولا سيادة إلا لله ولا طاعة إلا لله ولا خضوع ولا تذلل إلا له وحده بينما جعل العبودية الصورية الشكلية وهي الاسترقاق من فروع الأحكام الفقهية وذلك لعظم خطر الحرية المعنوية وشدة أثرها على النفس البشرية والمجتمعات الإنسانية ولهذا كانت عناية القرآن بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية المعنوية لغير الله كالخشية والخوف والرغبة والرهبة والطاعة والتذلل والخضوع أشد من عنايته بالحرية الصورية التي يفتقدها الرقيق إذ هذه فرع وتلك أصل فتحرير الإنسان من العبودية والخضوع والتذلل لغير الله من أصول الدين بل أشرف غاياته وهو أساس التوحيد الذي جاء الرسل لتحقيقه أما تحريره من الرق فمن فروع الدين من أجل كمال التوحيد حتى تكون عبودية الإنسان خالصة لله في المعنى والصورة ولا تكون كذلك حتى تزول كل أشكال عبودية الإنسان للإنسان وتزول كل سيادة للإنسان على أخيه الإنسان فلا سيد إلا الله وحده والخلق أحرار مع من سواه وكلما ارتفعوا في مقام العبودية لله اتسعت دائرة الحرية فيما بينهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق عبودية لله وبهذا وصفه القرآن لأنه أكثرهم تحررا من الخضوع لغير الله وأكملهم حرية وقد جعل الإسلام الحرية بجميع أشكالها حقا محفوظا بل واجبا مفروضا فقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في العقبة قبل الهجرة على (أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) وقال في شأن يهودي انتقد النبي صلى الله عليه وسلم علانية (دعوه فإن لصاحب الحق مقالا) ليؤكد بذلك مبدأ حرية الكلمة وحرية نقد السلطة هذه الحرية التي تعد حجر الأساس لجميع أنواع الحريات الإنسانية بل لقد جعل النبي قول كلمة الحق أفضل أنواع الجهاد في سبيل الله فقال (أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر) وجعل العمل السياسي والاهتمام بشؤون الأمة والسلطة وتقويمها من الدين فقال (الدين النصيحة للأئمة المسلمين وعامتهم) والنصيحة هي بذل الوسع في إرشادهم ومشاركتهم في الرأي والاجتهاد في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والتصدي لظلمهم والأخذ على أيديهم وأطرهم على الحق أطرا وصدعهم بالحق كم أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كما جعل الله سبحانه وتعالى حق اختيار السلطة للأمة يحرم مصادرته أو اغتصابه إياها كما في قوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} وقال عمر(الإمارة شورى بين المسلمين) وقال علي (أيها الناس إنما الأمير من أمّرتموه والخليفة من اخترتموه) وقد أجمع الصحابة على هذا الأصل الذي يؤكد الحرية السياسية في مشاركة الأمة في اختيار السلطة كما قرر القرآن حق الأمة في مشاركة السلطة بعد اختيارها في اتخاذ القرار وأنه ليس للسلطة أن تقطع أمرا دون الأمة كما قال تعالى {وشاورهم في الأمر} وما تعيشه الشعوب العربية على وجه الخصوص هي العبودية المعنوية للملوك والرؤساء والعلماء هذه العبودية التي تغتال كرامة الإنسان وحريته وإنسانيته لتصبح شعوب العالم العربي أكثر الشعوب خضوعا للاستبداد الداخلي وأكثر قابلية للخضوع للاستعمار الخارجي وهي اليوم في عبودية أشد من عبودية بني إسرائيل لفرعون فقد ضربت عليهم الذلة في كل بلد وصار ثلاثمائة مليون عربي يباعون في أسواق النخاسة الدولية دون أن يحركوا ساكنا أو يدفعوا باطلا أو ينصروا حقا أو ينكئوا عدوا فهم أحوج إلى التحرير من العبودية لغير الله - الذي هو غاية كلمة التوحيد - منهم إلى الشريعة التي تسقط كثير من أحكامها عن الإنسان إذا فقد حريته الصورية فكيف إذا فقد حريته المعنوية؟!
الحرية هي التوحيد
2 ـ 2
بقلم د. حاكم المطيري
ثبت بما ذكرناه في المقال الأول من أن الإسلام إنما جاء من أجل تحرير الإنسان تحريرا شكليا ماديا من الرق وهو العبودية الصورية وكذلك تحريره معنويا وروحيا من كل أشكال العبودية لغير الله تعالى بل جعل القرآن هذا التحرير المعنوي غاية التوحيد وأصل الدين كما في قوله {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} ([1]) وهذه الربوبية فسرها القرآن بالطاعة والخضوع لغير الله كما في قوله {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ([2]) ومعلوم أنهم لم يعبدوهم وإنما أطاعوهم وخضعوا لسلطانهم الديني برضاهم واختيارهم دون إكراه فكان ذلك الخضوع الطوعي هو عبادتهم واتخاذهم أربابا وهكذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم عندما قال (يا رسول الله إننا لم نعبدهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ألم يكن يحرمون عليكم الحلال ويحلون لكم الحرام فتطيعوهم؟) قال بلى! فقال النبي (فتلك عبادتهم) فقد كان أهل الكتاب عبيدا لأحبارهم ورهبانهم الذين صاروا أربابا لخضوع الناس لسلطانهم الروحي دون أن يشعر أهل الكتاب بهذه العبودية المعنوية التي هي من الشرك بالله الذي حرمه الإسلام تحريما قاطعا لمناقضته للتوحيد وهو إفراد الله وحده بالطاعة والخضوع وهذا أيضا هو معنى ربوبية فرعون الذي قال {أنا ربكم الأعلى} ([3]) أي أنا السيد الذي له عليكم حق الطاعة المطلقة والخضوع المطلق وذلك لسلطانه الدنيوي والعرب تطلق على السيد اسم الرب كما قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته في شأن ملك الحيرة :
وهو الرب والشهيد على يوم الحيرين والبلاء بلاء
ولهذا قال فرعون ليثبت ربوبيته هذه {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} ([4]) فرأى فرعون أن كون ملك مصر له يجعل له حق الطاعة المطلقة على الشعب المصري وقد سمى القرآن تلك الدعوة الفرعونية ربوبية وإلهية كما في قوله لموسى{لأن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين}([5]) ومعلوم أنه لم يطلب من موسى إلا طاعته وعدم معارضته لا عبادته بالمفهوم الاصطلاحي لمعنى العبادة وقد كان بنو إسرائيل في مصر موحدين على دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولم يكونوا يعبدون فرعون وكذا أهل مصر كانت لهم أوثانهم ودياناتهم ومعابدهم وإنما كانت ربوبية فرعون وإلهيته التي ادعاها لنفسه هي ما فرضه على الناس من الطاعة المطلقة له وعدم معارضته واستبداده بالأمر واستذلاله للشعب ولهذا قال للسحرة الذين آمنوا بموسى {أأمنتم له قبل أن آذن لكم} ([6]) فلم تكن المشكلة في نظره أن يؤمنوا بموسى بل المشكلة هي أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم وهو الملك الذي له الطاعة عليهم؟!
وقد صدق على فرعون أنه جعل من نفسه ربا وإلها لسلطانه الدنيوي وصدق على أهل مصر وبني إسرائيل أنهم جعلوا من أنفسهم عبيدا لخضوعهم لفرعون وطاعتهم المطلقة له كما في قول موسى له {وتلك نعمة تمنّها علي أن عبّدت بني إسرائيل}([7]) ومعنى تعبيد بني إسرائيل لفرعون في هذه الآية إي إخضاعهم لسلطانه واستذلالهم لطغيانه هذا إذا كان مراد موسى هو الاستفهام الاستنكاري فهو ينكر على فرعون إدعاءه أنه أكرمه بتربيته له في قصره ما دام قد ظلم قوم موسى واستذلهم واستعبدهم مع كونهم أحرارا وحذف همزة الاستفهام أسلوب قرآني شائع في لغة العرب فأصلها (أو تلك نعمة تمنها علي...؟!)وإن كان المراد في الآية الإخبار لا الإنكار فالمعنى : وهذه نعمة تمنها يا فرعون علي إذا تركت بني إسرائيل أحرارا وشأنهم يذهبون حيث شاءوا ليصبحوا عبيدا لله وحده لا سلطان لك عليهم ولا طاعة .
كما صدق على الأحبار والرهبان أنهم صاروا أربابا وآلهة لسلطانهم الديني وصدق على أهل الكتاب أنهم صاروا عبيدا لهم بطاعتهم والخضوع لهم.
وإذا كانت العبودية تناقض الحرية فالقرآن إذن جاء لتحرير الإنسان من العبودية للإنسان وذلك بإخلاص التوحيد الذي هو الحرية لله وحده وقد قالت أم مريم{ربي إني نذرت لك ما في بطني محررا} ([8]) أي موحدا ومخلصا لك في طاعته وعبوديته ووحدانيته وإنما أرادت أن تجعل المولود خادما في المعبد لا يخدم أحدا ولا يشتغل بطاعة أحد ولا يخضع لجلال أحد من البشر بل يقصر طاعته لله فقالت (محررا ) فجعلت التحرير نظير التوحيد فالحرية هنا تعني التوحيد الخالص لله ومما يرسخ مفهوم الحرية الإنسانية الذي جاء به القرآن قوله تعالى: ( لا إكراه في الدين)([9]) والدين هنا بمعنى الطاعة والخضوع فلا إكراه في طاعة الله وعبادته في الإسلام بل الطاعة قائمة على أساس الحرية لا الإكراه وإذا كان الله جل جلاله لم يرض من عباده أن يطيعوه أو يعبدوه أو يوحدوه كرها فكيف يسوغ للملوك والرؤساء أن يجبروا الناس لطاعتهم والخضوع لسلطانهم بالإكراه ودون رضاهم ؟!
بل ويتسع مفهوم التوحيد الذي جاء به القرآن ليشمل تحرير الإنسان حتى من الخوف من غير الله كما قال تعالى {ولا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}([10]) فشرط لتحقيق الإيمان عدم الخوف من البشر ومن كل ما سوى الله كما قال {وإياي فارهبون} ([11]) وهو كقوله {وإياي فاعبدون} ([12]) فكما لا تكون العبادة إلا لله وحده فكذلك لا يكون الخوف والرهبة والخشية إلا منه وحده لأنه هو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت فاستحق وحده الخضوع والخشية والرهبة والرغبة والعبادة والطاعة بل لقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في ترسيخ مفهوم تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله حتى نهى أصحابه عن القيام له إذا دخل عليهم كما يفعل العبيد مع أسيادهم ونهاهم عن الوقوف على رأسه وهو جالس ونهاهم عن الانحناء له بل نهاهم أن يقول أحدهم لرقيقه ومملوكه (عبدي وأمتي) بل يقول (فتاي وفتاتي) وعلل ذلك بقوله (فكلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله) وكل ذلك من أجل ترسيخ مفهوم حرية الإنسان وعدم عبوديته لغير الله وكل ما سبق ذكره من أنواع التوحيد هي من معاني الحرية الإنسانية والمساواة التي تفتقدها المجتمعات العربية المعاصرة التي ما تزال ترسف في أغلال العبودية لغير الله كالخضوع للملوك والرؤساء والطاعة لهم في غير طاعة الله والخوف منهم والخشية من سطوتهم والتذلل لهم والافتقار إليهم والتزلف عندهم وتعظيمهم حد تقبيل أيديهم والركوع عند ركبهم والقيام على رؤوسهم إجلال وتعظيما لهم إلى غير ذلك من صور العبودية والشرك بالله بعد أن تم اختزال معنى التوحيد ليصبح قاصرا فقط على الشعائر التعبدية دون باقي الممارسات العملية وبعد أن تم اختزال معنى الحرية ليصبح قاصرا على الحرية الشكلية الصورية التي هي من فروع الدين دون الحرية المعنوية التي هي أصل الدين ؟!
الحرية هي التوحيد